هذه المقالة بمناسبة الذكرى ((521)) لسقوط الأندلس (2 كانون الثاني 1492م)
إن الأمة الناجحة الفائزة هي التي تقف على أخطاء الأمم الغابرة الخاسرة فتتجنبها، لكن للأسف نجد عكس ذلك تماما، تقف الأمة على أخطاء من سبقها فتعيدها وتكررها فتحصدها سنة الله وعجلة التاريخ.
وما وقع في تاريخ الأندلس ونكبتها خير دليل على هذا؛ هذا التاريخ الذي يشمل أكثر من ثمانية قرون كاملة من تاريخ المسلمين: عام (92هـ=711م) إلى (897هـ= 1492م)؛ إنها مدة زمنية ليست بالهينة، ترى ما هي أسباب اندثار كل هذا، وسقوط هذا البناء العظيم الذي استغرق ثمانمائة وخمس سنين؟
خضع تاريخ الأندلس لسنن الله تعالى؛ قامت دول وسطع نجمها، وسقطت أخرى وأفل نجمها، وفق سنة الله في تداول الأيام بين الناس، وسنته في رقي الأمم واندثارها وسقوطها ونهوضها، وظهر في تاريخ الأندلس الفارس الشجاع المقدام، كما ظهر في تاريخها المتقاعد المتقاعس الخائف الجبان، وظهر فيها الزاهد التقيُّ الورع الصالح المصلح، كما ظهر المخالف لشرع ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وظهر فيها الأمين الحافظ على نفسه وعلى دينه وعلى أمته وثغورها، وظهر الخائن لنفسه ودينه ووطنه وأمته... وفي كل فترة من فترات تاريخها إلا وتتحقق سنة من سنن الله الثابتة وفق حالتها السائدة وحالة أمرائها...
ظهرت فيها سنة النصر جلية واضحة لما سار المسلمون على شروط النصر كما في معركة "وادي بَرْبَاط "؛ هذه المعركة التي تُشَبَّه في التاريخ بموقعتي اليرموك والقادسية، إنها إحدى أهمِّ المعارك في تاريخ المسلمين التي فُتحت فيها الأندلس.
تحققت هذه السنة في المعركة التي قادها البطل المجاهد الشجاع والفارس المقدام طارق بن زياد -رحمه الله-، لما كان الاعتصام بحبل الله تعالى شعاره، وراية الإسلام وحماية ثغوره رايته، ولواء الدفاع عن المستضعفين لواءه..
كما تحققت هذه السنة في معارك عبد الرحمن الداخل -رحمه الله- الملقب بصقر قريش؛ ذلك الرجل الذي قال عنه المؤرخون: "لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام بالكلية من بلاد الأندلس".
كما تحققت سنة النصر في معركة الزَّلاقة التي قادها القائد المجاهد الرباني يوسف بن تاشفِين المرابطي-رحمه الله-.
كما تحققت في عهد أبي بكر بن عمر اللمتوني-رحمه الله-.. هذا المجاهد الذي أسلم على يديه أكثرُ من خمس عشرة دولة إفريقية.
كما تحققت في معركة الأركِ التي قادها الأمير الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور –صاحب هذه الموقعة الخالدة-؛ التي دُكَّت فيها حصون النصارى، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا ساحقًا.
وفي المقابل تحققت سنة الهزيمة في عهد ملوك الطوائف الذين كان همهم الأكبر القصور والجواري وأشعار الغزل وشهوة السلطة والحكم... حتى فقدنا بصراعاتهم وطموحاتهم الشخصية وأهوائهم الشهوانية أوسع مسجد في العالم، مسجد قُرْطُبَة، الذي حُوِّل إلى كنيسة ما زالت قائمة إلى اليوم؟! وكذلك مسجد إِشْبِيلِيَة، وقصر الزهراء ومدينة الزهراء، وجامعة قُرْطُبَة، والمكتبة الأموية، بل فقدنا الأندلس كلها بمساجدها وأهلها وكنوزها العلمية والعمرانية...
كما تحققت سنة الهزيمة في معركة العقاب التي أصيب فيها المسلمون بهزيمة ساحقة، رغم تفوُّقهم على عدوِّهم في العدد والعُدَّة، تلك المعركة التي قال عنها المؤرخون: "بعد موقعة العقاب لم يُرَ في الأندلس شابٌّ صالحٌ للقتال".
إن سنن الله في الهزيمة والسقوط ثابتة ومطردة لا تتحول، إذا تكرَّرت في أُمَّة من المسلمين سقطت لا محالة.
لقد بقي المسلمون في الأندلس ثمانمائة عام وزيادة لما كانوا في طريق الله ولما رفعوا راية "الله أكبر" في قلوبهم وفي ربوع أراضيهم... فلما حادوا عن طريق الله وتنكبوا سنن النصر وكانت الدنيا همهم الأكبر أضاعوها وأضاعوا أنفسهم وحضارتهم ومجدهم وعزهم وكرامهم...
ضاعت الأندلس لما أضعنا طريق الله..
ضاعت الأندلس لما تغنى حكامها بـ:
قامت تجر ذيول العصب والحبر ** ضعيفة الخصر والميثاق والنظر
فلا نامت أعين الجبناء!
ومن أراد التوسع في الأحداث التاريخية للأندلس فليرجع إلى الموسوعة الضخمة الموسومة بــــ: دولة الإسلام في الأندلس للدكتور محمد عبد الله عنان، والأندلس التاريخ المصور للدكتور طارق سويدان، وقصة الأندلس من الفتح إلى السقوط للدكتور راغب السرجاني، ومصرع غرناطة للدكتور شوقي أبو الخليل، والتاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة، للدكتور عبد الرحمن الحجي وغيرها.
د.رشيد كهوس
نشر المقال في (صحيفة المثقف) الصادرة عن مؤسسة المثقف العربي بسيدني-أستراليا: العدد (2324): بتاريخ: الجمعة 11 يناير 2013.