عقد بيع القلب
 

جاء في ترجمة الشيخ ميمون بن علي بن عبد الخالق الصنهاجي ثم الخطابي([1])-رحمه الله-، أنه بعدما تنسك وقتا أنشأ وثيقة في بيع قلبه من ربه يتنازل بموجبها عن اختياره وامتلاكه وحركته وسكنته مقابل حصوله على رضا ربه، وطمأنينة قلبه ممن خلقه ورزقه ووفقه، قال: "يقول العبد الذي اعترف بما اقترفه لمولاه، وأقر له بما أضاعه لا بما أطاعه، على ما منحه من النعم وأولاه، الميمون بن علي بن عبد القادر الخطابي جبر الله بالتقوى كسره... ثم كتب العبد المذكور عقدا، وعهد مع المولى الجليل عهدا، وهو على خوف ووجل من المولى عز وجل، يسأله إدراك ما أمله، والوصل إلى ما أمَّ له، ويتبرأ من حوله وقوته إليه، ويتوكل في جميع أموره عليه، ويقف بقدم الندم بين يديه، معترفا بما كان له مقترفا، وراجيا أن يكون من بحر الإحسان لضرر الامتنان.

والعقد المذكور:

"هذا ما اشترى المولى اللطيف الجليل، من العبد الضعيف الذليل الميمون بن علي، اشترى منه في صفقة واحدة دون استبقاء ولا تبعيض، ولا استثناء بتصريح ولا تعريض، جميع المنـزل المعروف بمنـزل القلب والفؤاد، الذي من سكانه المحبة والإخلاص والوداد، حده من القبلة قبول الأوامر المطاعة، ومن الشرق لزوم السمع والطاعة، ومن الجوف الإقبال على ما عليه أهل السنة والجماعة، ومن الغرب دوام المراقبة في كل وقت وساعة، بكل ما يختص هذا المبيع المذكور ويعمه، وينتهي إليه كل حد من حدوده ويضمه، من داخل الحقوق وخارجها، ومداخل المنافع ومخارجها، وبكل ما له من الآلات التابعة له في التصريف، والحواس الجارية معه في حالتي الإضاعة والتشريف، السالكة مسلكه في التنكير والتعريف، من يدين، ورجلين، ولسان وشفتين، وعينين، وأذنين، اشتراء صحيحا تاما شائعا في جميع المبيع المذكور، وعاما ثبتت قواعده، وظهرت بالتسليم الصحيح شواهده، بلا شرط ولا خيار، ولا بقي مع حظ النفس ولا اختيار، بثمن رتبة العناية الربانية، وقسمته المشيئة الإلهية، بين عاجل وآجل، فالعاجل: العون على كل مندوب ومفترض، والصون عن كل غرض وعرض، والثناء على النعم الظاهرة والباطنة، وإهداء الآلاء المتحركة والساكنة، والآجل: الفوز بالدار القدسية، والحضرة الأنسية، التي فيها امتد جناح التواتر بالخبر الصادق وانتشر، ما لا عين رأت و لا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من النعيم المقيم السرمدي، والحبور الدائم الأبدي.

سلم العبد المذكور هذا المبيع المذكور، تسليما تبرأ به من الملك، ورفع به يد الاعتراض عن ما يفعل المولى الجليل فيما تملكه، وأيقن أنه المتصرف فيه في سره وجهره، وعلم أنه الملك المذكور تحت يد عزته وقهره، تجري فيه أحكامه القاهرة، وتنفد فيه قضاياه الباهرة، وتحيط به قدرته الظاهرة، وقد أحاط المولى الجليل بهذا المبيع المذكور إحاطة ظهور، ولم يخف عليه أي من قليله وكثيره، وجليله وحقيره، ومبانيه ومساكنه، ومتحركه وساكنه، إلا اطلع عليه اطلاع عليم قدير، ""ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".

ولما سلم العبد المذكور المبيع المذكور وأمضاه واستسلم لمولاه فيما حكم به وقضاه، تفضل عليه مولاه وغمره بجوده العميم، وأولاه وجعل له السكنى بهذا المنزل المذكور، مدة إقامته فيه إلى حين مماته وإتيان وفاته، إذ يستحيل على المولى الجليل الحلول في شيء، أو السكون إلى شيء، وهو موجد كل شيء، وخالق كل ميت وحي، ومريد كل رشد وغي، ومقدم كل نشر وطي، وأيضا فبالمولى تعالى  قيام جميع العبيد, وعلى قدره غناهم وفقرهم, لأنه الفعال لما يريد, وهو يسرهم لليسرى والعسرى, فمنهم شقي وسعيد, وله الغنى عن كل شيء, والله هو الغني الحميد.

وقد أمر المولى الجليل هذا العبد بخدمة هذا المنزل المذكور, خدمة التقرب إليه, وجعل له التصرف فيه بقبول أمره بالفوز بما لديه, وبهذا المنزل المذكور بساتين تسمى بساتين الإخلاص, وجنات تعرف بجنات حضرة القلب المعروف بمحل الاستخلاص.

التزم العبد المذكور تسهيل أرضها من شوك الارتياب, وتدليلها من حجر العجب والاضطراب, في حالتي الحضور والغياب, وتنقيتها من أعشاب الحسد والحقد والكبر وزوال ما فيها من عوارض الغش والخديعة والمكر, وأن يقطع منها كل عود لا منفعة فيه بتحديد الفكر, مثل عود الحرص والطمع, ويغرس مكانه شجر الزهد والورع, ويقلم أغصان الميل إلى الأدران والأقذار, وأفنان الركون إلى الأغيار والأكدار, وقضبان السكون إلى الشهوات والأوطار, ويفتح أبواب البذل والإيثار, بمفاتيح الجود الحميد المساعي والآثار, ويطلق ينابيع التوكل على مصرف الأقدار, ويخدم ما توعر من سواقي مياهها الإخلاصية وحياضها, ويمشي بالمصلحة المصلحة لدوحتها وغياضها, ويفجر بها مياه الصفاء من الأكدار, المتصلة بساقية الوفاء في الإيراد والإصدار, والملاصقة بساقية ترك الجفاف في هذه الدار, حتى يبدو إن شاء الله صلاحها, ويكثر ببركة الله إصلاحها, وتهب بقبول القبول أرواحها, وتثمر بجني المنى أدواحها, فتنبت قرنفل التنفل, وعود التبتل، وآس الأنس والسوسان, وياسمين اليأس من كل إنسان, ونعمان النعمة التي لا يصفها لسان.

وقد علم العبد المذكور, أن بخارج هذا المنزل المذكور, حرس الله إيمانه, وأدام أمانه, جيشا نفسيا يغير عليه في مسائه وصباحه, وينتهز فيه الفرصة في غدوّه ورواحه, ويقطع جادة السبيل بالمرور عليها بلا مسافة إلى حضرة الملك الجليل, وملك هذا الجيش المذكور النفس الكثيرة الأغراض, الميالة إلى ما يعرض من الأعراض, المعتكفة على المآرب المهلكة والأعراض, وخادم الملك المذكور الشهوة الموقوفة على خدمته, المعدودة في أعلى حرمته, ووزيره المفاخرة, وزمامه المنافسة في زهرة الدنيا, وحاجبه المكاثرة, وقيم جيشه المقدم, وفارسه الأقدم, شجاع الغضب, الذي عنده يتولد الهلاك, وبه يكون العطب, فطلب العبد المذكور من مولاه الإمداد بعساكر العزم, وفوارس الحزم, ورغب في الإعانة بكتائب السداد والتوفيق, ومواكب الرشد والتحقيق, وإرسال جيوش الاصطبار, وفوارس الانتصار, والتدرع بدروع الأذكار, وجولان خيل السعادة في ميادين الاختبار, والعون بأعلام العلم, والسكون في حصن الحلم, حتى يذهب حدة النفس ويزيل كيدها, ويميتها في المجاهدة بسيوف المجاهدة, ويقطع قوتها وأيديها, أو يمد يد التسليم بقهرها واضطرارها, وينطق لسان اعترافها وإقرارها, أنها أسقطت جملة دعواها واختيارها, ودخلت تحت امتثال الأوامر الربانية مسلمة لأقدارها والعبد يرغب مولاه رغبة خاشع، ويسأل سؤال فقير إلى رحمته خاضع, في تجميل جوده وكماله, وتحسين وجه علمه وعمله بالإخلاص وجماله, وبلوغه في الدارين آماله, ويستغفر استغفار آمل بحسن الرجاء، عامل ومعامل, أنه إن لحقته العناية الربانية, ودخل من باب اللطيف حرم كرم الإلهية, قهر الظهور لذلك لنفسه, وأظهر الحضور أنسه, حتى تتطهر النفس المذكورة من الأخلاق العرضية, وتترقى من الأغيار الأرضية, وتظهر عليها الشمائل الحميدة والأخلاق الرضية, وتنادي﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّة﴾.

شهد على إشهاد البائع المذكور من أشهده به على نفسه, عارفا بقدره, في صحته وطوعه, وجواز أمره, وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما([2]).


([1]) هو أبو عمرو ميمون بن علي بن عبد الخالق الخطابي الصنهاجي نسبة إلى إحدى قبائل صنهاجة، ويعرف بابن خبارة نسبة إلى خاله الشاعر المشهور بابن خبارة.

 عرف به أبو عبد الملك المراكشي فقال: كان بارع الخط، وكان من أكبر أعاجيب الدهر في سرعة البديهة، ناظما، أو ناثرا مع الإجادة التي لا تجاري والتفنن في أساليب الكلام معربه وهزله على اختلاف اللغات.

 تطور كثيرا وسلك طريق أهل الإحسان. وولي في أواخر عمره حسبة الطعام بمراكش.

وتوفى برباط الفتح سنة 637 هـ-1239م.

أورد له صاحب "أزهار الرياض" طائفة مستملحة من شعره.

وأفرد الشيخ عبد الله كنون –رحمه الله- بعض سيرته في جزء من "ذكريات مشاهير

رجال المغرب".

انظر ترجمته في:

أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، للمقري، 2/379 – 392.

الأعلام، لخير الدين الزركلي، 7/341.

الذيل والتكملة، 8/400.

([2]) الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الملك الأنصاري الأوسي المراكشي، تحقيق: محمد بنشريفة وإحسان عباس، 8/400.

د.رشيد كهوس



المنشورات ذات الصلة