بين الاجتهاد والتقول على الله

كثرت الصيحات وتعالت الأصوات بالدعوة إلى فتح باب الاجتهاد لكل من هبَّ ودبَّ، بلا حدود ولا قيود ولا ضوابط… باعتبار الاجتهاد حقّاً لكل الناس يقولون ما يحلو لهم ويفتون حسب أهوائهم، حتى سمعنا من الاجتهادات ما تهتز لها القلوب وتشمئز منها النفوس، فمنهم من رفض حجاب المرأة المسلمة بدعوى الاجتهاد والتجديد، ومنهم من رفض القوامة بحجة أنها تنقص من كرامة المرأة وقدرتها الإبداعية، ومنهم من حرّم التعدد، ومنهم من دعا إلى تقليد الحضارة الغربية في كل شيء بحجة التجديد والحداثة وتصحيح المفاهيم وتحقيق الحريات إلى آخر هذه الافتراءات. وصدق ربنا تبارك وتعالى القائل في كتابه العزيز: ((ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأُنزل مثل ما أَنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون)) (الأنعام: 93). إن الذين افتروا على الله كذباً أو قالوا أوحي إلينا ولم يوح إليهم شيء أو الذين قالوا سننزل مثل ما أنزل الله يتوعدهم ربنا جل وعلا بالعذاب الشديد وبالخزي في الدنيا والآخرة.

وعلى ذلك فإن القول في القرآن بغير دليل: تقوّلٌ على الله وافتراء عليه، من هنا وجبت الحيطة والحذر من الوقوع فيما يغضب الله ويجلب سخطه.

الاجتهاد يقتضي سبر معاني النص، واستخلاص درره العجيبة وجواهره النفيسة لاستجلاب الفهوم المتعددة من تراكيب النص وسياقه، بغية الاسترشاد والاهتداء بنوره المشرق الوضّاء، ولعل النص يتفتح عن رخصة ورحمة عميت عن أقوام، وبقيت مهملة بين ثنايا النص شاردة تبرز تارة وتختفي تارة كأنها صيد الخاطر، تدغدغ المشاعر حيناً وتنجلي وتنسد كالوردة ليلاً وتنغلق، لكن عبيرها لا ينطفئ، وأريجها الفياح يفوح بكل طيب ريح  لطيب عود، ويزيدها تفتحها نسمة فوق العبير، وتتعدد النسمات، وتنكشف الطبقات بعضها فوق بعض، وتضحى جوهرة خالصة يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها.

وبين التقوّل على الله واستخلاص ريح طيب وفهم جديد للنص مع الخضوع لجلال الله جل وعلا والفهم عنه بُعد المشرقين، فشتّان بين من يعتدي على الحرمات ويقول زوراً وكذباً، وبين خاضع خاشع فقير بين يدي الله سبحانه وتعالى، وقانت يطلب المزيد من فضل الله وكرمه الواسع.

والمتقوّل على الله معتد على الحدود، آثم وظالم لنفسه مبين، تبيّن له سبيل الهدى وعنه راغ وزاغ، وتبيّن له سبيل الضلال وإليه مال وانقلب، استعجل العاجلة ففرّت من بين يديه، وطرق باباً غير باب الله فانسدّت عليه الأبواب وأذلّته الأعتاب.

والساجد الراكع بباب مولاه اصطفاه واجتباه، وبالإنعام أمده، فتارة يكشف له مستوراً، وتارة يفيء عليه الفيء مدراراً، فرّ من الدنيا وولّى عنها، فأقبلت عليه ذليلة خادمة، بدأ بحظه من الآخرة فمرّ على حظه من الدنيا فنظمه له انتظاماً، طلب رضى ربه فرضي الله عنه وأرضى عنه الخلائق وكتب له القبول في الأرض، فالكلّ مقبل عليه محب له، يحمد ربه ويقبل عليه ويقف عند حدوده فيزداد نعيماً وملكاً كبيراً، نعمة من ربك، خميص البطن من الحرام، خفيف الظهر من الدماء، طاهر الباطن والظاهر، ألا نعم المطية التقوى ونعم المصير حياة طيبة وعيشة هنية في الدنيا والآخرة.

وخلاصة المرام في تحقيق المقام:

- إن الاجتهاد مفتوح لكن لأهله، وفي محله وبضوابطه التي حدّدها علماء الشريعة، وهي مبثوثة في كتب الأصول.

- لقد أصبح الاجتهاد زورق جهنم ومطية الأهواء والطموحات الشخصية.

- إن هذه الدعوات التي نسمعها صباح مساء في وسائل الإعلام المريبة هدفها تحطيم الشريعة وتشكيك المسلمين بدينهم، فخاب والله من كانت هذه بضاعته وذاك سعيه. وماذا بعد الحق إلا الضلال؟

 

بقلم : د.أبو اليسر رشيد كهوس

نشر في مجلة الفرقان الأردنية: العدد 45، رمضان 1426 هـ- تشرين الأول 2005م.



المنشورات ذات الصلة