محمد صلى الله عليه وسلم ([1]) للعلامة الشيخ محمد بهجة البيطار ([2])
من تصفح كتب السيرة النبوية الشريفة التي صاغها الحكماء قديماً وحديثاً، أو استجلى سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم من صفحات الوجود، كان جِدَّ عليمٍ بأنه أعظم مصلح ظهر في هذا الكون، ورأى أن تعاقب الأجيال لم يزد هذه الحقيقة إلا جلاءً وصقالاً؛ فهو صلى الله عليه وسلم إن ذكر العظماء كان أعظمهم، وإذا ذكر الرسل والأنبياء كان مقدمهم وخاتمهم.
نشأ يتيماً فاقد الأبوين، فلم نر من ذوي الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات من تربى تلك التربية الطاهرة، واشتغل -على حداثة سنِّه- بما يعود على كافليه بالخير والبركة والمعاونة([3]).
سافر بتجارة لخديجة بنت خويلد، فكان المثل الكامل في كل عصر بقوة نشاطه، وعظيم أمانته، وأرباحه في تجارته.
تزوج بخديجة، فلم يكن بزواجه أنانيَّاً ولا شهوانيَّاً، بل كان صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمسة وعشرين عاماً مضرب المثل في العفة والاستقامة، والاكتفاء بامرأة مسنَّة أيِّم، كانت قبله ذات زوج وولد، وهي أولى أزواجه، وأم أولاده، وقد عاش معها ربع قرن كامل، ولم يتزوج عليها أحداً، وإنما تزوج بعدها سودة بنت زمعة، وعاش بمكة حتى بلغ من العمر 53 عاماً لم يجمع فيها بين اثنتين أصلاً.
أما تزوجه في المدينة -في بضع سنين- بتلك النسوة الثاكلات الأيامى، وذوات الأولاد اليتامى فلمصالح زوجية واجتماعية، وأسباب خاصة وعامة، مبسوطة في كتب السيرة الشريفة القديمة منها والحديثة، اللهم إلا عائشة التي بنى بها في المدينة وهي بنت تسع سنين، وبقيت كخديجة آية على وجه الدهر في حبها وإخلاصها لزوجها ووفائها له، ثم كانت إحدى معجزاته صلى الله عليه وسلم الخالدة في مشكلات التفسير والحديث والفتاوى والأحكام، ومسندها في مسند أحمد ابن حنبل يقع في 253 صفحة، وعلى رواياتها المعوّل في معرفة ما كان رسول"يفعل في بيته.
كان أمر المرأة في التاريخ القديم والحديث عجباً، فمنهم من وَأَدَها، ومنهم من عبدها!.
لكن الإسلام هو الذي أنزلها المنزلة اللائقة بها، فهو قد منحها حقوقها، وعرفها واجباتها وآية: [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] لا يوجد في الدنيا قانون أعدل ولا أجمع منها، إذ قد ساوت بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وخصت الرجل بدرجة الرئاسة الشورية على الأهل والأولاد؛ فالإسلام لم يستعبد المرأة كما فعلت الأمم السابقة، ولم يقلب نظام الطبيعة؛ ليجعل منها رجلاً ثانياً كما فعلت الأمم الحديثة المتمدنة؛ فقد تخلى عنها عندهم الأب والأخ والابن، ودفعوها جميعاً في تيار العمل خارج المنزل، فشقيت، وشقي الرجل بها ومعها.
زعموا أن الإسلام قد هضمها حقها في الميراث، أوَلا يذكر هؤلاء أن ميراثها ومهرها لها، وأنها تتصرف في أموالها كيف شاءت؟
وهل تملك المرأة الحديثة من مال زوجها أو من مالها عنده من التصرف المطلق ما تملكه المرأة المسلمة؟ كلا إنها لا تملك حق التصرف في مالها بغير إذن زوجها.
زعموا أن الإسلام قد جعلها بنصف عقل الرجل في كل شيء! أولا يعلمون أن أصل هذه المسألة هي آية المداينة في آخر سورة البقرة، ومنها قوله _ تعالى _: [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ] وعلل ذلك بقوله: [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى] أي إذا نسيت إحداهما أذكرتها الثانية، فإذا كان الرجل في مقام امرأتين فيما ليس من خصائصها، ولا هو من وظائفها، وهو يُنسى عادة من مثلها أفلا تعد المرأة بمنزلة رجلين في شؤونها المنزلية، وأمورها الداخلية، وهل ينقص هذا من قدره شيئاً يا ترى؟
ألم يفرق الرسول صلى الله عليه وسلم بين عقبة بن الحارث وزوجه أم يحيى بنت أبي إهاب مذ شهدت أمة سوداء بأنها أرضعتهما؟ والحديث في الصحيح.
وهل جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ناقصة العقل، ضعيفة الذاكرة، فيما هو من خصائصها، أم قَبِل خبرها وحدها بعد نحو عشرين عاماً تقريباً؟
وأما كونها بنصفِ دين فالدين كالإيمان يطلق على الصلاة، وللمرأة عادتها الطبيعية في الحيض وفي النفاس، والشارع قد أسقط عنها الصلاة في تلك المدة طالت أو قصرت [ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ].
بخلاف سائر أركان الإسلام كالزكاة والحج والصيام فإنها مطالبة بأدائها كاملة كالرجل.
وجملة القول أنه صلى الله عليه وسلم أكبر المصلحين، وأكمل الأنبياء، وأشرف الخلق، وأجدر الناس بالمحبة والطاعة والاتباع.
([1]) مجلة الهداية الإسلامية الجزء التاسع من المجلد السابع الصادر في ربيع الأول 1354هـ، وانظر كتاب: محمد بهجة البيطار _ بهجة الإسلام _ إعداد الأستاذ علي الرضا الحسيني ص24_27.
([2]) هو الشيخ العلامة محمد بهجة بن بهاء الدين بن عبد الغني بن حسن بن إبراهيم الشهير بالبيطار.
ولد في الثاني من شهر رمضان المبارك سنة 1311هـ (1894) في مدينة دمشق من عائلة كريمة يرجع أصلها إلى الجزائر مدينة بليدة.
عرف والده بالعلم وقرض الشعر، ووالدته ابنة الشيخ عبدالرزاق البيطار صاحب كتاب حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر وهي ابنة عم والده.
تلقى علومه في المرحلة العلمية الأولى على والده. وفي المدرستين الابتدائيتين الريحانية والكاملية بدمشق.
تابع علومه على أفاضل العلماء، والده وجده لأمه الشيخ عبد الرزاق البيطار، وعلى كبار أعلام العصر كالإمام محمد الخضر حسين، والشيخ جمال الدين القاسمي، والمحدث الأكبر محمد بدر الدين الحسني.
وحصل منهم على الإجازات العلمية التي تشهد بتفوقه ومثابرته على طلب العلم.
قام بالخطابة في الجمع والأعياد والإمامة والتدريس في جامع الشربجي بحي الميدان سنة 1328هـ 1910م خلفاً لوالده.
كما تولى الخطابة والتدريس في جامع كريم الدين الشهير بالدقاق سنة 1335هـ _ 1917م وحتى وفاته ولم ينقطع عنهما إلا لداعي السفر أو المرض.
وكانت دروسه في جامع الشربجي بعد صلاة الصبح. وفي الدقاق ثلاثة أيام في الأسبوع بين المغرب والعشاء.
عمل في سلك التعليم، وتلَّد في عددٍ من المناصب في سوريا والسعودية.
توفي يوم السبت في الثلاثين من جمادى الأولى سنة 1396هـ الموافق للتاسع والعشرين من أيار سنة 1976م.
له عددٌ من المؤلفات منها: كتاب نقد عين الميزان ألفه أيام الطلب والتحصيل انتصاراً لأستاذه الشيخ جمال الدين القاسمي وأئمة الرواية في الأخذ عن كل ثقة ثبت صدوق. طبع بدمشق سنة 1331هـ، ورسالة نظرة في النفحة الزكية: هي دعوة إلى مذهب السلف الصالح ونبذ المعتقدات الزائفة والآراء الفاسدة. طبع بدمشق سنة 1922م، رسالة النفخة على النفحة والمنحة طبعت باسم مستعار مع الرسالة السابقة في الرد على رسالة النفحة الزكية في الرد على شبه الفرقة الوهابية، كتاب حياة شيخ الإسلام ابن تيمية طبع بدمشق سنة 1961م، رسالة الكوثري وتعليقاته بيان افتراءات زاهد الكوثري في تعليقاته على عقيدة أهل السنة. طبع بمصر سنة 1938م.وغيرها من الكتب، انظر ترجمته في كتاب محمد بهجة البيطار، إعداد علي الرضا الحسيني.