الإفتاء.. ضوابطه ومنهج التيسير فيه: إصدار للعلامة إسماعيل الخطيب (رحمه الله )

الإفتاء.. ضوابطه ومنهج التيسير فيه: إصدار للعلامة إسماعيل الخطيب (رحمه الله)

إعداد: أ.منتصر الخطيب

باحث بمركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية-تطوان-

أعد الأستاذ العلامة إسماعيل الخطيب  (رحمه الله ) هذا البحث ليشارك  به في ندوة الحج الكبرى التي نظمتها وزارة الحج بمكة المكرمة أيام: 24 ذي الحجة من عام 1427هـ، والتي شارك في إثراء مواضيعها جملة من أعلام البحث في المجال الفقهي من مختلف أنحاء العالم، واتفقت كلها على أن التيسير والتخفيف المشروعين منضبطان بنصوص الشريعة وأحكامها ومقاصدها، ولا يجوز التوسع فيهما بما يؤدي إلى تحريف أحكام الشريعة.

ولأهمية هذا الموضوع وراهنيته ارتأيت أن أجمل أهم ما جاء فيه تعميما للفائدة وتنويرا للرأي الفقهي لإسهام رجل أفنى عمره على منبري الخطابة والصحافة بمدينة تطوان العالمة.

وقد صدر هذا البحث في كتيب من الحجم المتوسط لا تتجاوز صفحاته السبعين عن مجلة النور التي كان يديرها الأستاذ إسماعيل الخطيب، تحت عنوان: "التيسير؛ منهجه وضوابطه في الإفتاء"، طبعة/2007، بمطابع الشويخ بتطوان.

وعن أهمية الموضوع يقول مؤلفه في المقدمة:  (تظاهرت أبحاث الدارسين في الندوة على إبراز خطر الإفتاء بغير علم، ونادى جل الباحثين بضرورة اتباع منهج الفتوى الجماعية خاصة في الأمور العامة والقضايا الخطيرة المتعلقة بمصير الأمة ومستقبلها.. )[ص:3].

وإذا كان ما يعنينا من هذا البحث هو مبحثه الثاني والذي هو بعنوان: "الإفتاء.. ضوابطه ومنهج التيسير فيه "، فإنه لا بأس من أن نلقي نظرة عن المبحث الأول؛ والذي وضعه المؤلف تحت عنوان: "التيسير.. مجالاته"، عرَّف فيه الأستاذ إسماعيل الخطيب  (رحمه الله) التيسير لغة واصطلاحا وما يدخل في معناه من اليسر الذي يعني السهولة والسعة، وأن هذا المصطلح قد ورد في القرآن الكريم بمعان؛ منها رفع الحرج ودرء المشقة والرخصة مقابل العزيمة.

ولذلك استنبط الفقهاء من نصوص الشريعة قواعد جعلوها معالم لهذا اليسر في التشريع وهي:

1 المشقة تجلب التيسير؛ ويتخرج عليها جميع رخص الشرع التي شرعها الله تعالى رحمة بعباده وتخفيفا على المكلفين.

2 لا واجب مع عجز؛ أي أن جميع الشروط والواجبات والأركان مقيدة بحال القدرة والاستطاعة، وتسقط في حال العجز وعدم القدرة.

3 الضرورات تبيح المحظورات؛ وهي تستثني حالة الاضطرار بعد ذكر المحرمات، ويتفرع عنها أن ما أبيح للضرورة يقدَّر بقدرها.

وذلك انطلاقا من مجموعة من نصوص القرآن والسنة من مثل قوله تعالى:  (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )[البقرة/185]، وقوله عز من قائل: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ )[البقرة/220] )، وقوله سبحانه: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا )[البقرة/286] )، وقوله عز وجل: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)[النساء/28] )، وقوله سبحانه: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )[المائدة/6] ).. مما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تنص على ما شرعه الله لعباده من اليسر والتخفيف ورفع الحرج في مختلف الحالات الخاصة والعامة، وما ورد في السنة المطهرة من مثل قوله صلى الله عليه وسلم:  (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه )[صحيح البخاري حديث رقم:39]، وقوله عليه السلام:  (يسروا ولا تعسروا )[صحيح البخاري/كتاب الأدب].. ليخلص المؤلف إلى أن هذا اليسر أو التيسير يتجلى واضحا في مجال العبادات التي شرعها الله تعالى لتُزكّيهم وتصِلَهم بربهم، وأنها قائمة على التيسير والرحمة، وأن هذا التيسير ينبغي أن يكون منضبطا بضوابط الشرع منسجما مع قواعده وأصوله، وأن لا يؤول إلى مناقضة النصوص الثابتة.

"الإفتاء.. ضوابطه ومنهج التيسير فيه":

هذا هو العنوان الذي اختاره الأستاذ إسماعيل الخطيب  (رحمه الله ) للمبحث الثاني من هذا الكتاب، وقد جاء في مهاده قوله:  (الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع التي تحمل الهداية الإلهية للبشر، وقد وضعت لمصالح العباد في الحال والمآل، لذا كان من خصائصها البقاء والدوام والاستمرار، وهي تشكل في مجموعها كلا متكاملا، وتصورا شاملا للحياة. ومن الحقائق المسلمة أن الشريعة الإسلامية قد وسِعَت العالم الإسلامي كله على تنائي أطرافه وتعدد أجناسه وتنوع بيئاته الحضارية وتجدد مشكلاته الزمنية، وأنها بمصادرها ونصوصها وقواعدها لم تقف يوما من الأيام مكتوفة اليدين أو مغلولة الرجلين أمام وقائع الحياة المتغيرة منذ عهد الصحابة فمن بعدهم.. وإنما استطاعت الشريعة الإسلامية أن تفي بحاجة كل المجتمعات التي حلت بها.. لأنها بجوار ما اشتملت عليه من متانة الأصول.. قد أودعها الله مرونة عجيبة جعلتها تتسع لمواجهة كل طريق[لعل المقصود:طريف]، ومعالجة كل جديد بغير عنت ولا إرهاق، فالشريعة لا تفارق حركة الكون، بل لها لكل حادث حديث، إذ ليس في الوجود ما لا حكم لله فيه، والإنسان مكلف بأن يجد لكل نازلة من النوازل حكما، والأمر هنا منوط بالمجتهد الذي عليه أن يكشف الحكم الشرعي من بين ثنايا النصوص، ولأن يقدم الحلول لكل التساؤلات المطروحة، وهنا يأتي دور الإفتاء.. )[ص:4445].

وبعد الحديث عن منزلة المفتي وأهمية الفتوى باعتبار ما ذكره الإمام الشاطبي من أن المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، كان لا بد من شروط يجب توافرها فيمن يتولى هذا المنصب الخطير فإلى جانب شرطي: الإسلام والتكليف ذكر المؤلف:

شرط العلم؛ باعتبار أن الفتيا صنعة وإنما يتمكن منها من كان له اطلاع واسع على أبواب الفقه على اختلافها مع الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة.

وذكر كذلك شرط العدالة؛ مما تتطلبه من الاستقامة في الأحوال والمحافظة على المروءة.

هذا بالإضافة إلى أمور أخرى من قبيل معرفة أحوال الناس والتفطن لتصرفاتهم، والنظر في السؤال والسائل قبل الفتوى، ومراعاة العرف والعادة إذ إن اختلافهما له أثر في اختلاف الحكم، وضرورة التريث قصد فهم السؤال وملابساته، مع مراعاة الحكم الشرعي الذي يتفق مع مقاصد الشريعة.

وبعد ذلك وصل المؤلف إلى بيان  (منهج التيسير في الفتوى ) وهو زبدة الكتاب وعمدته، فقد ذكر الأستاذ إسماعيل الخطيب  (رحمه الله ) في هذا الفصل قوله:  (إن منهج التيسير في الفتوى ينبني على أصول وقواعد تضبط فتاوى المفتي مأخوذة من القواعد الفقهية المشتملة على أسرار الشرع وحكمه.. وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه، وتتضح له مناهج الفتوى.. ولذلك اعتبر القرافي القواعد أصلا ثانيا من أصول التشريع الإسلامي وذلك لعظم نفعها وحاجة المفتين والقضاة إليها.. ومعالم هذا المنهج نجدها في قواعد هي بمثابة معايير للفتوى الوسطية، ذكرنا منها [قبلُ] ثلاثة هي: 1 المشقة تجلب التيسير، 2 لا واجب مع عجز، 3 الضرورات تبيح المحظورات، ونتبعها بقواعد أخرى تعطي مزيدا من الوضوح والبيان لهذا المنهج:

قاعدة: لا ضرر ولا ضرار؛ فهي تنص على نفي الضرر بكل صوره وأشكاله، فالمفتي إذا أفتى بما فيه تشديد فإن ذلك يتسبب في أضرار ومفاسد لا حدَّ لها.

قاعدة: الوجوب يتعلق بالاستطاعة؛ فمن لا يقدر، لا يكلفه الله تعالى ما يعجز عنه، فمن أفتى ومال إلى التشدد فيما يحسن فيه التخفيف فقد خالف منهج التيسير وتسببت فتواه في فساد عريض.

قاعدة: إذا ضاق الأمر اتسع؛ ومعناها إذا ظهرت مشقة في أمر فيرخص فيه ويوسع، فإذا زالت المشقة عاد الأمر إلى ما كان عليه. مما يعني التنقل ما بين الرخصة والعزيمة عند الإفتاء.

قاعدة: تغير الفتوى بتغير الزمان؛ وتعني تغيير الأحكام الاجتهادية حسب الترجيح لا أحكام الفرائض والواجبات، لترجح مصلحة شرعية لم تكن راجحة في وقت من الأوقات، أو لدرء مفسدة حادثة لم تكن قائمة في زمن من الأزمنة. يقول الأستاذ إسماعيل الخطيب:  (وقد أدى تزايد أعداد الحجيج إلى تغيير اجتهاد العلماء والمفتين في مسائل مشهورة في المذاهب سعيا وراء تطبيق مبدأ التيسير ورفع الضيق والحرج )[ص:51].

قاعدة: النظر في المآلات؛ وهي من القواعد الهامة التي ينبغي للمفتي أن لا يغفل عنها، وقد نبه الإمام الشاطبي في هذه القاعدة إلى أنه ينبغي للمفتي أن ينظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت وحال دون حال، فالنفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على مستوى واحد، فيحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناء على أن ذلك هو المقصد الشرعي من تلقي التكاليف.

وختم المؤلف هذه المداخلة بتقديم نصائحه وتوجيهاته للفتوى المعاصرة وللمفتين؛ بسبب الزيادة غير المسبوقة على طلب الفتوى في عصرنا الحالي بعد انتشار وسائل الإعلام المختلفة، مما ينبغي معه ضرورة الالتفات إلى هذه الشروط التي وضَّحها المؤلف قبلُ لمن انتصب لمهمة الفتوى، ومن هنا – يقول الأستاذ إسماعيل الخطيب:  ( صار لزاما اليوم أن يوضع قانون على مستوى العالم الإسلامي ينص على منع كل من ليس أهلا للفتوى من الإفتاء بغير علم، وعلى ردع من يتصدى لإطلاق فتاوى دون ضوابط شرعية والتي تتسبب في تضليل الناس، وقد ساعدت كثير من الفضائيات على ارتجال الفتاوى التي يطلقها أصحابها دون علم صحيح ودون محاسبة.. )[ص:55] ، فبرزت بالتالي ظاهرة تسلق غير المؤهلين لإصدار الفتاوى، ومما جاء في هذه الخاتمة قوله  (رحمه الله ):  (وإذا كانت الفتاوى بصفة عامة تنقسم إلى قسمين:

قسم عمل المفتي فيه إنما ينحصر في الجواب عن أمر منصوص عليه في مصنفات الفقه؛ كأحكام الصلاة والزكاة والصوم والميراث والعدة وغير ذلك مما تتكرر حوله الأسئلة باستمرار.

وقسم فيه مجال للاجتهاد، وقد يقع اختلاف بين العلماء في المسألة الواحدة من هذا النوع.

فإن القسم الأول يتولاه كل فقيه قادر على بيان الحكم الشرعي مع التزامه بما ينبغي للمفتي أن يلتزم به من التقوى والنية الصادقة مع مراعاة التوسط من غير إفراط ولا تفريط. ولا ينبغي حصر هذه الفتاوى على هيئة معينة أو أشخاص محصورين، ففي ذلك تضييق لا ينبغي، فحاجة الناس ماسة صباح مساء إلى الفتوى الفردية في القضايا التي تواجههم، لكن هذا لا يعفي المسؤولين من تصفح أحوال هؤلاء المفتين وتنبيه الناس إلى أن لا يتوجهوا بسؤالاتهم إلا لمن عرف بعلمه وتقواه.

أما القسم الثاني الذي فيه مجال للاجتهاد، فهو الذي تتطلب مسائله نظرا وبحثا، خاصة في الأمور العامة، وأخصها القضايا الدقيقة والمتعلقة بمصير الأمة، فلا ينبغي أن يتولاه فرد يستقل برأيه مهما كانت منزلته من العلم، [ودعا إلى انتهاج الفتوى الجماعية] فاجتماع الفقهاء ودرسهم وبحثهم ثم اتفاقهم كان أمرا مطلوبا، وهو الآن نظرا للحالة التي آلت إليها الفتوى بعد أن تجرَّأ عليها الجهلة ممن لا يتقون الله ولا يخافون عذابه، ونظرا لتشعب قضايا العصر أكثر إلحاحا، والمجامع الفقهية صورة معاصرة لمجالس المجتهدين والمفتين التي عرفت في القديم، وعليها يعول اليوم في بيان الحكم الشرعي في القضايا العامة، ولا ينبغي لها أن تترك فراغا يتسبب في حيرة الناس وقلقهم )[ص:565758].

تلكم إذن جملة ما يقدمه هذا الكتاب لما جاء في شرع الله من تيسير وتسهيل وتخفيف، مع بيان لضوابطه، وما جاء كذلك في منهج التيسير في الإفتاء، مع بيان لشروط المفتي باعتباره قائما في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم في البيان والتبليغ.



المنشورات ذات الصلة