في رمضان.. للعلامة يوسف القرضاوي

 

يستحب للصائم في رمضان ما يلي:

1- تعجيل الإفطار:

ويستحب للصائم تعجيل الإفطار, فقد رغب في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, بقوله وفعله.

ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر". (متفق عليه من حديث سهل بن سعد, كما في اللؤلؤ والمرجان: 667).

وإنما أحب التعجيل لما فيه من التيسير على الناس, وكره التأخير لما فيه من شبهة التنطع والغلو في الدين, والتشبه بأهل الأديان الأخرى الذين كانوا يغلون في دينهم.

فعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر, لأن اليهود والنصارى يؤخرون". (رواه أبو داود في الصوم (2353), وابن ماجه (1698), وابن (2060), والحاكم (1/431) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي).

وكان من سنته العملية عليه الصلاة والسلام: ما رواه أنس خادمه: أنه كان يفطر على رطبات قبل أن يصلي, فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات, فإن لم تكن حسا حسوات من ماء. (رواه أحمد (3/164), وأبو داود (2356), والترمذي (696).

ويقول أيضا: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة المغرب حتى يفطر, ولو على شربة ماء. (رواه أبو يعلى وقال الهيثمي في (المجمع): رجاله رجال الصحيح (3/155) وابن خزيمة (2063, وابن حبان (3495).

وقال عليه الصلاة والسلام: "من وجد التمر فليفطر عليه, ومن لم يجد التمر فليفطر على الماء, فإن الماء طهور". (رواه عبد الرزاق في مصنفه (7586), وأحمد (4/17-18), وأبو داود (2355), والترمذي (694), وابن ماجه (1699), وابن خزيمة (2067), وابن حبان (893), والحاكم (1/431-432), وصححه ووافقه الذهبي, والأمر هنا للاستحباب عند الفقهاء كافة, إلا أن ابن حزم شذ, فجعله للوجوب على أن قاعدته, وأوجب الفطر على التمر إن وجده, وإلا فالماء.

والبلاد التي لا يوجد فيها الرطب أو التمر, يغني عنها بعض الفواكه الأخرى أو شيء من الحلو.

وينبغي أن يلزم الاعتدال في تناول الطعام, فلا يسرف ويكثر إلى حد التخمة, فيضيع حكمة الصيام الصحبة, كما يفعله كثير من الصائمين.

2- السحور وتأخيره:

ومما سنه النبي صلى الله عليه وسلم للصائم أن يتسحر , وأن يؤخر السحور.

والسحور: ما يؤكل في السحر, أي بعد منتصف الليل إلى الفجر, وأراد بذلك أن يكون قوة للصائم على احتمال الصيام, وجوعه وظمئه, وخصوصا عندما يطول النهار.

ولذا قال: "تسحروا فإن في السحور بركة". (متفق عليه, اللؤلؤ والمرجان (665).

وفيه تمييز كذلك لصيام المسلمين عن غيرهم, وفي الصحيح: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكلة السحر". (مسلم (1096), وأبو داود (2343), والنسائي (2168), والترمذي (907), عن عمر بن العاص).

والأصل في السحور أن يكون طعاما يؤكل, ولو شيئا من التمر, وإلا فأدنى ما يكفي شربة من ماء.

روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "السحور كله بركة, فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء, فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين". (قال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه أحمد, وإسناده قوي, وحسنه الألباني في الجامع الصغير (3683), عند ابن حبان (883-884), من حديث ابن عمر: "تسحروا ولو بجرعة ماء").

ومن بركة السحور: أنه – بجوار ما يهيئه للمسلم من وجبة مادية – يهيئ له وجبة روحية, بما يكسبه المسلم من ذكر واستغفار ودعاء, في هذا الوقت المبارك, وقت السحر الذي تنزل فيه الرحمات, عسى أن يكون من المستغفرين بالأسحار.

ومن السنة تأخير السحور, تقليلا لمدة الجوع والحرمان, قال زيد بن ثابت: تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم, ثم قمنا إلى الصلاة, فسأله أنس: كم بينهما؟ قال: قدر خمسين آية. (متفق عليه, اللؤلؤ والمرجان(666).

وقوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأربيض من الخيط الأسود من الفجر} يفيد جواز الأكل إلى أن يتبين الفجر.

عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه". (رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم, ووافقه الذهبي (1/426).

وعن عائشة: أن بلالا كان يؤذن بليل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم: فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر". (البخاري في الصوم).

قال ابن كثير: (وقد روى عن طائفة كثيرة من السلف: أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر, روي مثل هذا عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة, وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وزيد ابن ثابت وعن طائفة كثيرة من التابعين, منهم محمد بن علي بن الحسين وأبو مجلز وإبراهيم النخعي وأبو الضحى وأبو وائل وغيره من أصحاب ابن مسعود وعطاء والحسن والحكم بن عيينة ومجاهد وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد وإليه ذهب الأعمش وجابر بن راشد). (تفسير ابن كثير (1/222) ط . عيسى الحلبي.

3- التنزه عن اللغو والرفث والجهل والسب:

وينبغي للصائم أن يزداد حرصا على التنزه عن اللغو والرفث والصخب والجهل والسب والشتم.

وهذا شأن المؤمنين في كل وقت وحال, كما قال تعالى في وصف المؤمنين المفلحين: {والذين هم عن اللغو معرضون} [المؤمنون: 3], وفي وصف عباد الرحمن: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} [الفرقان: 63], ولكن هذا آكد في حال الصيام.

وقد قال عليه الصلاة السلام: "الصيام جنة, وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب (وفي رواية: ولا يجهل) فإن سابه أحد أو قاتله, فليقل: إني امرؤ صائم" (متفق عليه, اللؤلؤ والمرجان (706-707) وفي رواية: مرتين.

والرفث: الكلام المتعلق بالنساء وأمور الجنس, وقيل: الفحش في الكلام عامة, والصخب: الصياح ورفع الأصوات, شأن الجهال, وهذا معنى (ولا يجهل).

ومن آداب الصائم أن يدفع السيئة بالحسنة, وأن يقول لمن سبه أو شتمه: إني صائم, يقول ذلك بقلبه ولسانه, يخاطب بذلك نفسه ليلجمها بلجام التقوى, ويخاطب بذلك شاتمه ليكف شره, ويطفئ غضبه بماء الحلم والدفع بالتي هي أحسن.

وأولى بالتنزه من اللغو والرفث والصخب: الكذب والزور والغيبة والنميمة ونحوها من آفات اللسان, التي تأكل الحسنات كما تأكل النار الخطب.

والصيام المقبول حقا هو الذي يصوم فيه اللسان والجوارح, عن معصية الله كما يصوم البطن عن الطعام والشراب, والفرج عن مباشرة النساء.

يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث" (رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم, ووافقه الذهبي (1/430). وقال أيضا: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع" (رواه النسائي وابن ماجه والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري كما في المجموع للنووي (6/356), وانظر: المستدرك (1/431).

وإن وقت الصائم لأغلى وأنفس من أن ينفق في هذه المهلكات, التي إن تبطل الصيام – كما قاله جماعة من السلف – ذهبت بأجره كله أو بعضه.

4- قيام ليالي رمضان وصلاة التراويح:

فرض الله تعالى صيام أيام رمضان، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام لياليه. عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، ثم يقول: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه" (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان -435).

ومعنى (إيمانًا): أي تصديقًا بوعد الله تعالى، ومعنى (احتسابًا): أي طلبًا لوجه الله تعالى وثوابه.

ومن صلى التراويح كما ينبغي فقد قام رمضان.

والتراويح: هي تلك الصلاة المأثورة التي يؤديها المسلمون جماعة في المسجد، بعد صلاة العشاء.

وقد سَنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين صلى بأصحابه ليلتين، أو ثلاثًا ثم تركها خشية أن تفرض عليهم، وكان بالمؤمنين رحيمًا، فصلاها الصحابة فرادى، حتى جمعهم عمر على الصلاة خلف أبي بن كعب.

فعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة (أي من رمضان) من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلُّوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله.. حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر، أقبل على الناس فتشهد ثم قال: "أما بعد، فإنه لم يخف علّي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها" (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان -436).

وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، أي يصلون فرادى، وكذلك في خلافة أبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر.

روى البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه! والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يعنى آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله (رواه البخاري في كتاب التراويح).

وقول عمر: (نعمت البدعة هذه) لا يعني بها (البدعة الدينية) التي يراد بها استحداث أمر في الدين لايندرج تحت أصل شرعي، إنما يراد بها المعنى اللغوي للبدعة، باعتبار أنها أمر لم يكن في عهده، ولا عهد أبي بكر من قبل.

ولكنه وافق الهدي النبوي، حيث قرر النبي صلى الله عليه وسلم، صلاة أصحابه وراءه ثلاث ليال في المسجد، ولولا خشية افتراضها عليهم وعجزهم عنها، لاستمر في الصلاة بهم، وقد زالت هذه الخشية، بإكمال الدين وانقطاع الوحي، واستقرار الشرع، وكان عمر مسددًا في عمله هذا، لما فيه من مظهر الوحدة، واجتماع الكلمة ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين، ولا سيما إذا كان حسن القراءة.

ولهذا ذهب الجمهور إلى سنية صلاة التراويح في الجماعة، بل ذهب الطحاوي من الحنفية إلى وجوبها على الكفاية (فتح الباري 156/5 ط. الحلبي).

ولم تذكر رواية البخاري عدد الركعات التي كان يصلى بها أبي بن كعب، وقد اختلف في ذلك ما بين إحدى عشرة، وثلاث عشرة، وإحدى وعشرين. أي مع الوتر قال الحافظ: ويحتمل أن يكون ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس.

وقد ورد أنهم كانوا يقرأون بالسور الطوال، ويقومون على العصي من طول القيام.

وفي إمارة عمر بن عبد العزيز بالمدينة، كانوا يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث.

قال مالك: وهو الأمر القديم عندنا.

وقال الشافعي: رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين، وفي مكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق.

وعنه قال: إن أطالوا القيام وأقلوا السجود (أي عدد الركعات) فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة، فحسن، والأول أحب إليَّ.

وصلى بعض السلف أربعين غير الوتر (انظر في هذا كله: فتح الباري -157/5 ط. الحلبي).

ولا تضييق في ذلك كما قال الإمام الشافعي، ولا ينبغي أن ينكر بعض الناس على بعض في ذلك، ما دامت الصلاة تأخذ حقها من الطمأنينة والخشوع.

فمن صلى بإحدى عشرة، فقد اهتدى بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قالت عائشة: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان، ولا في غيره، على إحدى عشرة ركعة (رواه البخاري وغيره).

وعن جابر: أنه عليه الصلاة والسلام - صلى بهم ثماني ركعات، ثم أوتر أي بثلاث.

ومن صلى بثلاث وعشرين، فله أسوة بما كان في عهد عمر، كما رواه غير واحد، وقد أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين.

ومن صلى بتسع وثلاثين أو إحدى وأربعين، فله أسوة بما كان عليه العمل في المدينة في خير قرون الأمة، وقد شاهده إمام دار الهجرة، وقال: وعلى هذا العمل من بضع ومائة سنة.

والصلاة خير موضوع، ولم يرد تحديد العدد في رمضان - ولا في غيره بمقدار معين.فلا معني لإنكار بعض العلماء المعاصرين على من صلى عشرين أنه خالف السنة، والهدي النبوي، أو من صلى ثمانيا أنه خالف المأثور عن سلف الأمة وخلفها.

وإن كان الأحب إليَّ هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله لا يرضى له إلا الأفضل، وذلك (إحدى عشرة ركعة) بالوتر مع تطويل القراءة والصلاة.

والذي يجب إنكاره من الجميع تلك الصلاة التي تُؤدَّى في بعض مساجد المسلمين وكأنما يلهب ظهورهم سوط يسوقهم إلى الفراغ منها وهى (20 ركعة) في أقل من ثلث ساعة!! والله تعالى يقول: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المؤمنون: 1،2).

ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلمات جامعة نافعة في بيان مشروعية صلاة التراويح بأي من الأعداد المروية فيها، قال رضي الله عنه:

(ثبت أن أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في رمضان، ويوتر بثلاث فرأى كثير من العلماء أن ذلك هو السنة، لأنه قام بين المهاجرين والأنصار، ولم ينكره منكر.

واستحب آخرون تسعًا وثلاثين ركعة، بناء على أنه عمل أهل المدينة القديم.

وقالت طائفة: قد ثبت في الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، واضطربوا في الأصل لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين.

والصواب أن ذلك جميعه حسن، كما نصَّ على ذلك الإمام أحمد، وأنه لا يوقت في قيام رمضان عدد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت فيه عددًا، وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يطيل القيام بالليل، حتى قد ثبت عنه في الصحيح من حديث حذيفة: أنه كان يقرأ في الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران، فكان طول القيام يغني عن تكثير الركعات.

وأبي بن كعب لما قام بهم وهم جماعة واحدة، لم يمكن أن يطيل بهم القيام فكثر الركعات، ليكون ذلك عوضًا عن طول القيام، وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته فإنه كان يقوم بالليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، ثم بعد ذلك كان الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيام، فكثروا الركعات، حتى بلغت تسعًا وثلاثين).

أما أي هذه الأعداد أفضل؟ فقد قال شيخ الإسلام:

والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام بعشر ركعات وثلاث بعدها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره، فهو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين أفضل فهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشرين وبين الأربعين، وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك، ولا يكره شيء من ذلك، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره، ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يزاد ولا ينقص منه فقد أخطأ) أ.هـ..

5- اغتنام أيام رمضان في الذكر والطاعة والجود

رمضان موسم من مواسم الخير، تضاعف فيه الحسنات، وترجى فيه المغفرة، وتزداد فيه الرغبة في الخير، والمحروم حقًا من حرم في هذا الشهر رحمة الله عز وجل.

وإنما تُنال رحمة الله تعالى بالإقبال عليه، والاجتهاد في ذكره وشكره، وحسن عبادته.

وقد ابتُلينا ببعض المسلمين الذين يقضون النهار في منام، والليل في طعام ويضيعون فرصة التزود من هذا الشهر الكريم.

في الحديث الصحيح: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين" (متفق عليه عن أبي هريرة، اللؤلؤ والمرجان -656).

وفي طريق لعبد الرزاق وغيره: "وينادي فيه مناد: يا باغي الخير، هَلُمّ، ويا باغي الشر أقصر" (عبد الرزاق -7386، وابن خزيمة -1883، ورواه الحاكم بنحوه، وقال: صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي -421/1).

ومن ألوان الطاعة في هذا الشهر: الإكثار من ذكر الله تعالى، والاستغفار والدعاء وتلاوة القرآن الكريم، والحرص على الصلاة في الجماعة.

وهذا مُستحب للمسلم في كل وقت، ولكنه في رمضان أكثر استحبابًا، حتى لا يتسرب منه الشهر الكريم يومًا بعد يوم، دون أن ينال حظه فيه من المغفرة والعتق من النار، ولله كل ليلة فيه عتقاء من النار.

وقد روى كعب بن عجرة وغيره: أن جبريل عليه السلام دعا على من أدرك رمضان فلم يغفر له، وأمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي -154/4، وقال الهيثمي في المجمع -166/10: رواه الطبراني ورجاله ثقات).

ومن أهم ما ينبغي للصائم الحرص عليه في رمضان: الجود وفعل الخير، وبذل المعروف للناس، وإطعام الطعام.

فهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة. (رواه البخاري في الصوم وفي بدء الوحي).

ومن هنا اعتاد المسلمون من قديم مد الموائد لتفطير الصائمين في رمضان، لما فيها من الثواب الجزيل.

6- الدعاء طوال النهار وخصوصًا عند الإفطار:

يستحب للصائم أن يرطب لسانه بذكر الله ودعائه طوال يوم صومه، فإن الصوم يجعله في حالة روحية تقربه من الله تعالى، وتجعله في مظنة الاستجابة لدعائه.

والذكر والدعاء مطلوب من الصائم طوال نهاره، ولكنه مطلوب بصورة خاصة عند الإفطار. وأولى ما يقوله الصائم عند فطره ما رواه ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أفطر: "ذهب الظمأ وابتلّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى" (رواه أبو داود (2357)، والدارقطني (185/2) وحسن إسناده، والحاكم (422/1) وقال: صحيح على شرط البخاري. والعمل بهذا الخبر أولي من خبر أنس وابن عباس أنه كان يقول: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم"). رواه الدارقطني، لأن سنده ضعيف).

ويدعو عند الإفطار بما أحب لدينه ودنياه وآخرته، لنفسه ولذويه وللمسلمين فهو وقت تُرجى فيه الإجابة. فقد روى ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو: "أن للصائم عند فطره دعوة ما ترد" (رواه ابن ماجة -1753، وذكر البوصيري في الزوائد: أن إسناده صحيح، وانظر: تعليقنا في (المنتقى) على الحديث -521). وكان عبد الله بن عمرو يجمع بنيه عند الإفطار ويدعو قائلا: اللهم أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي ذنوبي.

وروى أبو هريرة: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم" (رواه الترمذي وحسنه (3595)، وابن ماجة (1752)، وصححه ابن حبان (2408)، وحسنه ابن حجر في أماليه على الأذكار، ورواه أحمد في حديث وصحَّحه أحمد شاكر، انظر (المنتقى من الترغيب والترهيب) وتعليقنا على الحديث -522). وفي رواية: "والصائم حتى يفطر".

7- الاجتهاد في العشر الأواخر:

صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها. (رواه أحمد ومسلم والترمذي عن عائشة: كما في صحيح الجامع الصغير -4910).

وقالت عائشة: كان إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. (رواه الستة إلا الترمذي عن عائشة، المصدر السابق -4713 وانظر: اللؤلؤ والمرجان -730).

وشد المئزر كناية عن الاجتهاد في العبادة، يُقال للمجتهد في أمر: شمر عن ساقيه، كما يكنى به عن اعتزال النساء.

والمراد بقولها: (أحيا ليله) (عبرت عائشة عن القيام بالإحياء، دلالة على أن الأوقات التي لا تغتنم في طاعة الله تعالى أوقات ميتة)، أي أحياه كله بالقيام والتعبد والطاعة وقد كان قبل ذلك يقوم بعضه، وينام بعضه، كما أمره الله في سورة (المزمل).

ومعنى (أيقظ أهله): أي زوجاته أمهات المؤمنين، ليشاركنه في اغتنام الخير والذكر والعبادة في هذه الأوقات المباركة.

وبهذا يعلمنا أن يتعهد المسلم أهله وأسرته بالتذكير بمواقع الخير، والأمر به، كما قال تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) (طه: 132).

ومن دلائل حرصه صلى الله عليه وسلم على الاجتهاد في العشر الأواخر: اعتكافه فيها في المسجد، متفرغًا لعبادة الله تعالى. ذكرت عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده (متفق عليه اللؤلؤ والمرجان -728، 729، ورواه عنه كذلك ابن عمر، المصدر نفسه -727).

والاعتكاف: عزلة مؤقتة عن شواغل الحياة، وإقبال بالكلية على الله تبارك وتعالى، والأنس بعبادته.

والإسلام لم يشرع الرهبانية، ولا التعبد بالعزلة الدائمة، ولكنه شرع هذه الفترات المؤقتة في أوقات معينة، لترتوي القلوب الظامئة إلى المزيد من التعبد والتجرد لله رب العالمين.

سر الاجتهاد في العشر:

وسر الاجتهاد والمبالغة في العشر الأواخر يكمن في أمرين:

الأول: أن هذه العشر، هي ختام الشهر المبارك، والأعمال بخواتيمها، ولهذا كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: "اللهم اجعل خير أيامي يوم ألقاك، وخير عمري أواخره، وخير عملي خواتمه".

الثاني: أن ليلة القدر المباركة المفضلة أرجح ما تكون فيها، بل صحت الأحاديث أنها تلتمس فيها.

فاللبيب الكيس من اجتهد في هذه العشر، عسى أن يظفر فيها بهذه الليلة فيغفر له ما تقدم من ذنبه.

ـــــــ

- عن كتاب "فقه الصيام" لفضيلة الشيخ العلامة يوسف القرضاوي، الصادر عن مكتبة وهبة بالقاهرة :2006. 



المنشورات ذات الصلة