المحب الصادق وشهيد الحب:سيدنا طلحة بن البراء رضي الله عنه

طلع البدر علينـا ** من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع

بهذه البهجة والمسرة والكلمات الرائعة الجميلة استقبل أهل يثرب سيدنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورحبوا به أيما ترحيب.

وقف سيدنا طلحة بن البراء رضي الله عنه منزوياً يسمع ويرى، ويتمنى لو يتاح له المجال لأن يشارك أترابه ترحيبهم بالنبي العظيم صلى الله عليه وسلم.

وما إن أهلّ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بوجهه الوضّاء، حتى تراكض الناس إليه بلهفة وشوق كبير.

شعر طلحة بحب شديد للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ، وإجلال وإعظام له، فذهب مسرعاً إلى أبويه وهو يقول:

-أماه.. أبتاه.. لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هيا معي نذهب إليه ونتبعه.

نظر أبوه إليه طويلاً ثم قال:

-يا بني.. أنت ما زلت صغيراً لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرك بعد، لننتظر قليلاً حتى نرى ما يصنع أهل المدينة.

فردّ طلحة بحرقة:

-يا أبتي.. ولمَ الانتظار؟ إنه رسول الله حقاً، وقد اتبعه أكثر أهل المدينة، فلمَ لا نكون السباقين إلى هذا الخير العميم؟

تجاهل أبو طلحة ما قاله له ولده، وقام إلى آلهته ينفض عنها التراب.

شعر طلحة بالحزن الشديد وأخذ يحدث نفسه:

"أيهمل والديه الحبيبين إلى قلبه، ويذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أم ينتظر حتى يقتنع والداه ويذهبا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

لكن حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم تغلّب على حبه لوالديه، فذهب مسرعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل عليه والفرحة تقفز من عينيه، وقال له:

-يا رسول الله.. اُبسطْ يدك أبايعك.

نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طلحة الفتى الصغير نظرة حبٍّ وإكبار، ثم سأله عن أبويه، فقال طلحة بنبرة حزينة:

-لا يزالان مشركين يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{وإن أمرتك بقطيعة والديك؟}.

نظر طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة المغشيِّ عليه، وتغلّب عليه حبُّه لأبويه، ثم قال والدموع تملأ عينيه:

-لا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنهما والداي، وأنا أحبهما حباً جماً.

خرج طلحة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجرّ رجليه جرّاً، وذهب إلى بيته حزيناً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يستطع النوم وهو يتقلب على فراشه، يفكر فيما قاله له رسول الله، وما إن أصبح الصباح، حتى ركض طلحة إلى رسول الله ليبايعه، مرة ثانية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{وإن أمرتك بقطيعة والديك؟}.

أُسقط في يد طلحة مرة أخرى، وتغلّب عليه حبُّه لأبويه، فقال ولسانه يقطر مرارة:

-لا يا رسول الله، لا أستغني عن والديّ.

عاد طلحة إلى بيته، يقلّب الأمر، والداه أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!

وبعد أيام اختار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، وذهب مسرعاً إلى رسول الله، وقال له:

-يا رسول الله.. اُبسطْ يدك لأبايعك، وأي شيء تطلبه مني أنفذه لك.

تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء وجهه، ومدّ يده الشريفة يبايع طلحة، وهو يقول له:

{يا طلحة، إنه ليس في ديننا قطيعة رحم، ولكن أحببتُ أن لا يكون في دينك ريبة (أي شك)}.

غمرت الفرحةُ الكبيرة قلبَ طلحة، وشعر كأنه ملكَ العالمَ بأسره، وأخذ يلازم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في حلّه وترحاله، فقد شغفه حباً.

جاءه يوماً وسلم عليه، ثمّ أكبّ عليه يلصق بدنه ببدنه، ويقبل يديه ورجليه، وهو يقول:

-يا رسول الله مُرْني بما أحببتَ، ولا أعصي لك أمراً.

فأحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اختبارَ حبّ طلحة له، فقال له:

{اذهبْ فاقتلْ أباك}.

خرج طلحة رضي الله عنه مسرعاً لينفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يراجعه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداه، وقال له:

{يا طلحة.. ألم أخبرك أني لم أبعث بقطيعة رحم!!}

واكتملت سعادة طلحة بإسلام والديه، ولكن بعد أشهر قليلة مرض طلحة مرضاً شديداً، أقعده عن الذهاب إلى رسول الله، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طلحة، فأخبروه بمرضه.

حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب طلحة، وذهب مع جماعة من أصحابه، إليه رغم بعد المسافة، وشدة البرد، ولما دخل عليه رآه في حالة يُرثى لها، وقد فقد وعيه من شدة آلامه، فوقف على رأسه ودعا له، وقلبه يعتصر ألماً، ثم قال لأهله:

{لا أرى طلحة إلا قد حدّث فيه الموت، فآذنوني به (أي أعلموني بوفاته) حتى أصلي عليه}.

ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد جَنّ الليل، وفي منتصف الليل أفاق طلحة من إغماءته، وابتدر أهله بالسؤال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل عاده؟ فقالوا له:

-نعمْ، وقد أقبل عليك ودعا لك، وقال لنا: أخبروني بما يحدث لطلحة.

سُرّ طلحة كثيراً بهذا الخبر السعيد، ثم تجّهم وجهه فجأة كأنه تذكر شيئاً مهماً، وقال:

-ما أراني إلا ميتاً، فإذا أنا مت فادفنوني، ولا تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة، فتلسعه دابة، أو يصيبه شيء، وإني أخاف عليه اليهود أن يصاب بسببي، ولكن إذا فُقدت، فأقرِئوه مني السلام، وقولوا له: فليستغفر لي.

ما إن انتهى من كلامه حتى ثقل لسانه، وأسلم روحه لبارئها، راضياً مرضياً، ففعل أهله ما طلبه منه ولدهم طلحة، وفي الصباح ذهب أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره بموته.

حزن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً، ثم قام من مجلسه وذهب إلى قبر طلحة، مع جماعة من أصحابه، وصلى عليه، ودعا له:

{اللهم القَ طلحة تضحك إليه، ويضحك إليك}.

أرأيت كيف يعلم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محبته لأصحابه رضي الله عنهم،  وكيف يمتحن عليها كما امتحن الغلام رضي الله عنه! محبة تَفدي بالنفس، وتصحَب عبر الموت، وتجعل المحبوب وأمنه مركز الهم، يُنْسَى معه الكرب، حتى كرب الموت.

د.أبو اليسر



المنشورات ذات الصلة