حضارة أم عمران

أُفضِّلُ استعمال كلمة «عمران» بدل كلمة «حضارة»، لأن كلمة «حضارة» تكسوها الأنفس المعجبة بزخرف الدنيا وغرورها حلة من الأبهة والهيبة.

وإليكم البيان:

تعد كلمة «حضارة» الترجمة الشائعة للكلمة الإفرنجية -(الإسبانية مثلا)- «Civilización»، والتي يعود أصلها إلى عدة جذور في اللغة اللاتينية ؛ «Ciudad» بمعنى مدنية، و»Ciudadano» أي مدني، «Cívico» بمعنى وطني، و»Civilizar» بمعنى حضّر مدّن، أو «Civil» مدني ضد عسكري. كما أنها تقرن أحيانا بمصطلح «Cultivo» التي في معناها اللاتيني تفيد الزراعة والفلاحة. ولم يُتداول الاشتقاق «Civilización» حتى القرن الثامن عشر. وكان المصطلح قبل ذلك يستخدم في مدلولات معيّنة، ثمّ طرأت التعديلات والتبديلات على ذلك المصطلح، حتّى وصل إلى ما استقرّ عليه اليوم؛ الذي يعني في العربية: مدنيّة أو حضارة. ومصطلح «Civilización» ترجم في أغلب الأحيان إلى العربيّة بعبارة «حضارة»، فكتاب «ول ديورانت» الموسوم ب: «The story of civilization» ترجم إلى العربيّة تحت عنوان: «قصّة الحضارة». وقس على ذلك معظم ترجمات الكتب الموسومة بهذا الاسم وتردد تلك العبارة.

وقد وقع تداخل كبير في الفكر الأوروبي في تناوله لمفهوم «Civilización»، فمنهم من جعل المفهوم مرادفًا لمفهوم الثقافة «Cultura» ، ومنهم من جعله قاصرًا على نواحي التقدم المادي مثل أصحاب الفكر الألماني، ومنهم من جعله شاملاً لكل أبعاد التقدم مثل المفكرين الفرنسيين.

ومع دخول الاستعمار الأوروبي إلى البلاد العربية في بدايات القرن العشرين، انتقل لفظ «Civilización» إلى القاموس العربي.

أما في الاصطلاح؛ فاخترت هذا التعريف الذي نقلته من الفرنسية إلى العربية، الحضارة :«هي عملية التحضر، يعني الرقي بالمجتمع إلى مستوى معتبر، مثلا : مجتمع مزدهر ومتطور،... والحضارة ضد البربرية والوحشية» (١).

أما عند «ديورانت» فيعرفها بأنها : «نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وإنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة : الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون؛ وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها»(٢). 

يقول «صامويل هانتغتون» :«فما الّذي نعنيه عندما نتحدّث عن حضارةٍ ما؟ إنّ الحضارة هي كيان ثقافي. فالقرى والأقاليم والمجموعات الإثنيّة والقوميّات والمجموعات الدينيّة لها جميعها ثقافات متميِّزة… وهكذا فإنَّ الحضارات هي أعلى تجمُّع ثقافيّ للناس وأوسع مستوى للهويّة الثقافيّة للشعب ولا يسبقها إلاّ ما يميِّز البشر عن الأنواع الأخرى. وهي تحدَّد في آن معاً بالعناصر الموضوعيّة المشتركة، مثل اللغة والدين والتاريخ والعادات والمؤسَّسات، وبالتحديد الذاتيِّ الّذي يقوم به الشعب نفسه»(٣).

أضف إلى ذلك أن «هناك دلالات كثيرة على أن الحضارة قد تغدو عوضا علمانيا عن الدين، وتمجيدا للعقل»(٤).

ويعرف عبد الرحمن بن خلدون الحضارة بقوله: «الحضارة غاية للبداوة... وهي التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تُؤنّقُ من أصنافه وسائر فنونه، كالصنائع المهيئة للمطابخ والملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية، ولسائر أحوال المنزل... فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة، لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها: أما دينها فللاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها؛ وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد، ويعجز الكسب عن الوفاء بها... ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف؛ فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ والمشارب وطيبها. ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح»(٥).

ويقول مصطفى علم الدين في تعريفه للحضارة: «الحضارة هي: نمط عيش مجموعة بشريّة معيَّنة، في بيئة معيَّنة يتمثَّل في النظام الّذي تعتمده المجموعة وفي سلَّم القيم الاجتماعيّة الّتي تحدِّدها لنفسها»(٦).

وعرفت الحضارة كذلك بكونها: «سمة لحياة الاستقرار في الحضر والأخذ بمعالمها والعيش في هنائها المادي»(٧).

 أما قصدي من العمران فيشمل مدلول مؤرخنا الحكيم عبد الرحمن بن خلدون –رحمه الله-؛ الذي يضع كلمة «حضارة» في مقابلة «بداوة». ويستعمل كلمة «عمران» للتعبير عن النضج والازدهار الاقتصادي من زراعة وتجارة وبناء وإنتاج بصفة عامة. والمدلول العصري لكلمة «الحضارة» أي التطور والتحضر والتقدم في مجالات الحياة، هذان المدلولان الخلدوني والعصري للحضارة مربوطَيْن بتوجّه القاصدين المعمِّرين المتحضرين على منهاج السكة المستقبلية العابرة من الدنيا للآخرة باقتحام العقبة إلى الله، مربوطين بمعاني عِمارة المساجد الواردِ فيها قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة:18). مربوطين بالكلمة القرآنية التي بلغ بها نبي الله سيدنا صالح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- قومه بمراد الله الشرعي من المؤمنين إذ قال لهم: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (هود:61). أي: «أمركم بعمارتها»(٨).

وخلاصة القول: فنقول مجتمع العمران الإسلامي الأخوي، أو العمران الآخِرِي، عندما نتحدث عن الإسلام ومجتمعه الراقي السامي.

أما عندما نتحدث عن الغرب فنقول الحضارة الغربية؛ لأنها لا تعرف شيئا اسمه الآخرة نست الله فنسيها.

هوامش:

(١)  انظر الرابط الآتي:

( «http://fr.wikipedia.org/wiki/Civilisation»

(٢)  قصة الحضارة، ول ديورنت ،1/4.

(٣)  صدام الحضارات، ص18-19.

(٤)  الثقافة التفسير الأنثروبولوجي، تأليف: آدم كوبر، ترجمة: تراجي فتحي، سلسلة عالم المعرفة 349، ص42.

(٥)  المقدمة، ص344-346.

(٦)  المجتمع الإسلاميّ في مرحلة التكوين، ص6.

(٧)  الحضارة العربية الإسلامية، إبراهيم أحمد العدوي، ونايف عيد السهيل، ص8.

(٨)  تفسير الكشاف:489.

د.رشيد كهوس

المقال منشور في مجلة المنهل "السعودية": العدد 615، المجلد 71، العام 75، محرم صفر 1430 هـ/يناير فبراير 2009م.



المنشورات ذات الصلة