أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة [1]
للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
المقام الأول:
في الحرية والمساواة في الشريعة الإسلامية
وهو مقام يستدعى شيئاً من الإطالة؛ ليكون الحكم فيه على شيء مضبوط، فلا يظن أحد أن الإسلام دعا إلى الحرية والمساواة على الإطلاق أو على الإجمال؛ لأن هنالك حدوداً دقيقة بعضها محمود وبعضها ضارٌّ مذموم.
لا تجد لفظاً تهواه النفوس، وتهش لسماعه، وتستزيد من الحديث فيه _ مع أن معظمهم لا يضبط مقدار المراد منه _ مثلَ لفظِ الحرية.
وما سبب ذلك التعلق العام إلا أن معظم من يسمعون هذا اللفظ، أو ينطقون به يحملونه على محامل يخف محملها في نفوسهم.
فالوقح يحسب الوقاحة حرية، فيخف عنده ما ينكره الناس من وقاحته، والجريء الفاتك ينمي صنيعه إليها، فيجد من ذلك مبرراً لجرأته، ومحب الثورة يعد الحرية مسوغاً لدعوته، والمَفْتون في اعتقاده يدافع الناقمين عليه بأنه حر العقيدة إلى غير هؤلاء.
فيا لله لهذا المعنى الحسن ماذا لقي من المحن، وماذا عُدِل به عن خير سنن؟
والتحقيق أن الحرية إنما يُعنى بها السلامةُ من الاستسلام إلى الغير بقدر ما تسمح به الشريعة والأخلاق الفاضلة.
ولقد أصاب الذين اختاروا للتعبير عن هذا المعنى في العربية لفظ الحرية؛ لأن الحرية في كلام العرب ضد الرق، وقد شاع عند العرب أن يلصقوا مَذامَّ الصفات النفسانية بالرق؛ إذ قد عرى العبيد عندهم عن الاهتمام باكتساب الفضائل، وزهدوا في خصال الكمال، قال ابن زيابة:
إنك يا عمر وَتَرْكَ الندى |
| كالعبد إذ قَيَّدَ أجمالَه([2]) |
ولما استصرخ شداد العبسي ابنه عنترة؛ ليرد غارات عدوهم _ وكان عنترة ابن أمة كما هو مشهور، وكان أبوه يأبى أن يعده في عداد بنيه بل جعله عبداً له على عادة أهل الجاهلية _ أجابه عنترة بقوله: "العبد لا يحسن الكر وإنما يحسن الحلاب والصر"([3]).
فقال له شداد "كر وأنت حر".
وبضد ذلك جعلوا الفضائل من سمات الأحرار قال جعفر بن علبة الحارثي:
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة ** يرى غمرات الموت ثم يزورها
وقال الراجز الجاهلي:
لن يُسْلِمَ ابنُ حرةٍ زَميلَه ** حتى يموت أو يرى سبيله
وقال مخيس بن أرطاة التميمي:
فقلت له تجنب كل شيء ** يعاب عليك إن الحرَّ حرُّ
قال المبرد: "يعني أن الحر على الأخلاق التي عهدت في الأحرار وكما كنت تعهد". ا. هـ يعني وأنت حر فلا تخالف خلق الأحرار.
حتى لقد احتاج بعض أصحاب الأخلاق الحميدة من عبيدهم إلى إعلان الاختلاف بين حال عبودية شخصه، وكرم نفسه كما قال حية النوبي الملقب بـ: سحيم عبد بني الحسحاس:
إن كنت عبداً فنفسي حرة كرماً ** أو أسود اللون أني أبيض الخلق
دعوة الإسلام إلى الحرية:
الحرية وصف فطري في البشر؛ فإننا نرى المولود ييفع حرَّاً لا يعرف للتقييد شبحاً.
وإذ قد كان الإسلام دين الفطرة كما وصفه الله _ تعالى _ بقوله: ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)) (الروم:30) .
فكل ما هو من أصل الفطرة فهو من شعب الإسلام ما لم يمنعه مانع.
ويزيد إعراباً عن كون الحرية من أصول الإسلام قوله _ تعالى _ في وصف محمد صلى الله عليه وسلم ووصف أتباعه: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)) (الأعراف:157 ).
فالإصر: هو التكاليف الشاقة، والأغلال: غير الإصر؛ فهي مستعارة للعبودية التي كانوا عليها في الجاهلية وهي عبودية الأصنام وسدنتها، وعبودية الملوك، وعبودية القادة أصحاب المرابيع([4]).
ومما يزيد هذا بيانا قول عمر لعمرو بن العاص في قصة ولده الآتية: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".
طرأت على الحرية الفطرية وسائل الضغط من القوة والتسلط، فَسَخَّرت الضعيفَ للقوي، والبسيطَ للمحتال وزادت هذا التسخير تمكناً التعاليمُ المضللةُ وهي أساطير الوثنية، والشرك، والكهانة، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم يضع عنها الأغلال إلى الحد الذي تصير به نفعاً ورحمةً قال _ تعالى _: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) (الأنبياء107).
لا تتحقق حرية تامة في نظام البشر؛ لأن تمام الحرية هو الانخلاع عن جميع القيود، وعن كل مراعاة للغير بأن يعيش المرء عيشة الوحوش، وذلك غير مستطاع إلا فيما تخيَّله الشنفري إذ يقول:
ولي دونكم أهلون سِيْدٌ عَمَلَّسٌ ** وأرقط زهلول وعرفاء جيأل([5])
هم الأهلُ لا مستودع السر ذائع ** لديهم ولا الجاني بما دان يعزل
فأما والإنسان مدني بطبع خلقته، محتاج إلى الاتصال ببني نوعه؛ لأنه ضعيف محتاج في قوام أمره إلى التعاون _ فالحرية المطلقة تنافي مدنيته؛ فتعين أن الحرية المحمودة التي يدعو إليها الإسلام والحكماء هي حرية مقيدة لا محالة.
فلننظر إلى القيود التي دخلت على الحرية في تاريخ الحضارة، فان كانت تحصل منها فائدة للمقيد بها في خاصته أو في حالته الاجتماعية العامة فهي المعبَّر عنها بالشرائع والقوانين، ودخولها على الحرية مقصود منه تعديلها؛ لتكون نافعة غير ضارة.
وإن كانت تلك القيود في فائدة غير المقيد بها لاستغلال حقوق المقيد بها فهي الاستعباد الذي قصد منه، أو آل إلى إفساد الحرية.
تتعلق الحرية بالاعتقاد، والقول، والعمل.
فأما حرية الاعتقاد فقد أسس الإسلام حرية العقيدة بإبطال العقائد الضالة المخالفة لما في نفس الأمر؛ فان محور تلك العقائد هو إرغام الناس على أن يعتقدوا مالا قبل له بجولان الفكر فيه، أو ما يموه بتخيلات، وتكليف اعتقاد مالا يفهم ينافي الحرية.
فبَيَّن الإسلامُ الاعتقادَ الحقَّ، ونصبَ الأدلةَ عليه وعلى تفريعه، ودعا الناس إلى الاستنتاج من تلك الأدلة قال _ تعالى _: ((قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) (يونس: 101).
وقد اختلف الصحابة، وحدث الخلاف في عهدهم ومن بعدهم في مسائل كثيرة كمسألة الإمامة، ومسألة القدر، ومسألة التكفير بالذنب، فلم تكن طائفة ترغم غيرها إلا إذا خرج المخالف عن حد المناظرة إلى المغالبة والإرهاق.
وانقسم المسلمون إلى طوائف مختلفة الاعتقاد من آخذين بما ورد في السنة دون تأويل، وآخذين بذلك مع التأويل، ومن خوارج، وقدرية، وجبرية، ومرجئة، ومعتزلة، وظاهرية، وصوفية؛ فلم يكن أهل حكومة الإسلام يجبرون الناس على اتباع معتقدهم، بل كان الفصل بينهم قائماً على صحة الحجة، وحسن المناظرة إلى أن ظهرت في القرن الثالث مسألة خلق القرآن، وإثبات الكلام النفسي القديم التي أيقظت عين الفتنة، وابتلي فيها أهل السنة ببغداد ومصر، وظهرت بالقيروان مسألة الاستثناء في الإيمان، وهي قول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله، ومسألة العندية في الإيمان وهي قول المؤمن أنا مؤمن عند الله، وتبعت ذلك فتن تبدو وتخفى، وتلتهب تارة ثم تطفى.
لم يسمح الإسلام بتجاوز حرية الاعتقاد حد المحافظة على دائرة الإيمان والإسلام المفسَّرَين في حديث جبريل الشهير؛ لأن ما تجاوز من حرية الاعتقاد يفضي إلى انحلال الجامعة الإسلامية فلا يكون محموداً.
فالذي يعتقد عقيدة الإسلام ثم يخرج عنه فهو المرتد؛ فارتداده إما أن يكون مع إظهار الحرابة للإسلام وهذا النوع قد حدث زمن النبي صلى الله عليه وسلم من نفر من عُكل وعُرينة فحكم فيهم رسول الله بحكم المحارب.
وأما بدون حرابة فقد ارتد نفر آخرون ثم تابوا فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبتهم.
ثم ارتدت قبائل من العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعلان الكفر، أو بجحد وجوب الزكاة، وقد أجمع الصحابة على وجوب قتالهم؛ فكان إجماعهم أصلاً في قتل المرتد مع الاعتضاد له بما رواه معاذ بن جبل وعبد الله بن عباس _ رضي الله عنهم _ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من بدل دينه فاقتلوه))، يعني الإسلام.
وليس هذا الحكم بقادح في أصل حرية الاعتقاد؛ لأن الداخل في الإسلام قد كان على حريته في اعتقاده قبل دخوله فيه، فلما دخل في الإسلام صار غير حرٍّ في خروجه منه؛ لقيام معارض الحرية؛ لأن الارتداد يؤذن بسوء طوية المرتد من قبل؛ فإنه لا يتصور أن يجد بعد إيمانه ديناً آخر أنفذ إلى القلب من الإيمان، فتعين أن يكون دخوله في الإيمان لقصد التجسس، أو لقصد التشويه بالدين في نظر من لم يؤمنوا به؛ ليوهمهم أنه دين لا يستقر متبعه عليه بعد أن يعرفه؛ لأن معظم الناس أغرار تغرهم الظواهر، ولا يغوصون إلى الحقائق.
وكما استدل هرقل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بسؤاله أبا سفيان "هل يرتد أحد من أتباع محمد بغضة لدينه بعد أن يدخل فيه؟" فأجابه أبو سفيان _ وهو يومئذ مشرك _ بأن "لا"، فقال هرقل: "وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب".
فكذلك يعكس الكائد للإسلام وجه الاستدلال، فيجعل من ارتداد الداخل في الإسلام دليلاً وهميَّاً على صحته.
وقد يكون الارتداد لمجرد الاستخفاف والسخرية بالإسلام.
وحرمة الله توجب الذب عن دينه في مثل هذا، على أن عدم المؤاخذة به يفضي إلى انحلال الجامعة كما وقع في ردة العرب لو لم يؤخذوا بالصرامة.
أما حرية الاعتقاد نحو غير الداخلين في الإسلام فلم يحمل الإسلام أهل الملل على تبديل أديانهم، بل اقتنع منهم بالدخول تحت سلطانه، وبدعائهم على الدخول في الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.
ومعلوم أن الدخول تحت سلطان الإسلام ليس متعلقاً بالاعتقاد ولا بالعمل، ولكنه راجع إلى حفظ أمن دولة الإسلام، إذ الإسلام دينٌ قرينُ دولة؛ فكان من موجباتِ حفظِ بقائه تأمينُه من غوائل الناقمين على ظهوره.
قال بعض العلماء: كان رسول الله " لا يُكْرِه أحداً على اتباعه، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوه فنزل قوله _ تعالى _: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا] الحج: 39، وقد قال الله _ تعالى _: [لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ]([6]) البقرة: 256.
وأما حرية القول فهي أن يجهر المفكر برأيه ويصرح بما يراه صواباً مما يأنس من نفسه أنه يحسن الإصابة فيه، قال الله _ تعالى _: [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] الأنعام: 152.
ولا شك أن قول العدل قد تكرهه النفوس التي يقمعها الحق؛ ولذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أكبر شعب الإيمان قال الله _ تعالى _: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] آل عمران: 104.
وقال: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] آل عمران:110.
وفي الحديث الصحيح ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)).
فالتغيير باليد خاص بأولي الأمر، وجعل التغيير بالقلب أضعف الإيمان فهو حظ ضعيف، فتعيَّن أن حظ عامة المؤمنين هو تغيير المنكر باللسان.
ومن حرية القول بذل النصيحة قال الله _ تعالى _: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)]العصر.
وفي الحديث الصحيح: ((الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فشرط عليَّ والنصح لكل مسلم، فبايعته على ذلك".
ومن حرية القول حق المراجعة من الضعيف للقوي كمراجعة الابن أباه والمرأة زوجها، وفي حديث عمر بن الخطاب "كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم؛ فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخبت عليَّ امرأتي فراجعتني، فأنكرت عليها أن تراجعني قالت: ولِمَ تُنكر عليَّ أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه وقد أخبر عمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقره".
وقد راجع الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياء من غير التشريع، من ذلك لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش أدنى ماء من بدر في وقعة بدر قال له الحباب بن المنذر: "أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة".
فقال: "يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزلَه، ثم نعورَ ما وراءه من القُلُب([7]) ثم نبنيَ عليه حوضاً، فنملأَه، فنشربَ ولا يشربوا".
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أشرت بالرأي".
وقال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم صلح القضية حين رأى عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على إجابة شروط قريش: "ألسنا على الحق وعدونا على الباطل فعلام نعطى الدنية في ديننا".
ومن حرية القول حرية العلم والتعليم، ومظهرها في الإسلام في حالين: الحال الأول: الأمر ببث العلم بقدر الاستطاعة؛ فقد أمرنا ببث القرآن وتعليمه، وببث الآثار النبوية؛ ففي الحديث الصحيح: ((نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه إلى من ليس بفقيه)).
وفي خطبة حجة الوداع، ((ليبلغ الشاهد الغائب)).
وقد أمر الخليفة الثالث بنسخ المصاحف وأرسل بها إلى أقطار الإسلام، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يوما في الأسبوع لتعليم النساء، وأُسِّست المكاتب لتعليم الصبيان من عهد أبي بكر أو عمر، ثم قد وردت أحاديث في فضل العبيد والإماء.
ووراء هذا مرتبة أخرى في العلم والتعليم وهي مرتبة الاستنباط في العلم، فقد دعا الإسلام إليها، وأوجبها على من بلغ رتبة المقدرة عليها في الأحكام الشرعية وهي مرتبة الاجتهاد بمراتبه.
قال علماؤنا: إنها من مشمولات أمر الوجوب في قوله _ تعالى _: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] التغابن:16، وغيره من آيات القرآن.
وفي الحديث: ((من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد)).
وأَيَّةُ حريةٍ للعلم أوسع من هذه؛ إذ جعل الأجر على الخطأ؟.
الحال الثاني: تخويل أهل العلم نشر آرائهم ومذاهبهم وتعليمها مع اختلافهم في وجوه العلم، واحتجاج كل فريق لرأيه ومذهبه، وحرصهم على دوام ذلك تطلباً للحق؛ لأن الحق مشاع.
ولقد قال أبو جعفر المنصور للإمام مالك بن أنس: "إني عزمت أن أكتب كتبك هذه _ يعني الموطأ باعتبار أبوابه _ نسخاً ثم أبعث إلى كل مصر من الأمصار بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوها إلى غيرها".
فقال مالك: "لا تفعل يا أمير المؤمنين؛ فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم من اختلاف أصحاب رسول الله"وغيرهم، وإن ردهم عن ذلك شديد فدع الناس وما هم عليه".
ولقد كان في مدة الدولة العبيدية بالقيروان مذهبان متضادان تمام المضادة في أصول الدين وفروعه وهما مذهب المالكية سكان البلاد، ومذهب الإسماعيلية من الشيعة مذهب أهل الدولة، وكان علماء الفريقين ينشرون كتبهم، ويدرسون مذاهبهم لا يصد أحدهم الآخر.
ثم كان نظير ذلك بمصر في عهد انتقال العبيديين إليها، وتأسيس دولتهم الملقبة بالفاطمية.
وشواهد هذا كثيرة في تاريخ المذاهب.
لم يقتصر الإسلام في بذل حرية العلم على المسلمين، بل منح الحرية لأهل الملل الداخلين في ذمته وسلطانه، وقد كان اليهود في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرسون التوراة في المدارس بالمدينة، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مدارسهم ودعاهم إلى الإسلام كما هو ثابت في الصحيح.
وأما حرية العمل فهي تتعلق بعمل المرء في خُوَيِّصته، وبعمله المرتبط بعمل غيره؛ فحرية العمل في الخويصة مثل تناول المباح والاحتراف بما شاء، ولا يجبر على أن يعمل لغيره إلا إذا تعين عليه عمل من المصالح العامة أو ما فيه حفظ حياء الغير مثل الدفاع عن الحوزة، وحراسة الثغور، وإنقاذ الغريق، وخدمة من تتعين عليه خدمته، وإعطاء الزكاة، ونفقة القرابة.
وكل ذلك يرجع إلى القسم الثاني في الحقيقة.
وكذلك التصرف في المال عدا ما هو محظور شرعاً، إلا إذا طرأ عليه اختلال التصرف من عَتَهٍ أو سفه، وذلك قيد في الحرية؛ لأنها حرية غير ناشئة عن إرادة صحيحة؛ فألغيت لأجل مصلحته ومصلحة عائلته.
وحكم النساء في حرية التصرف مثل الرجال بحسب ما تسمح به حالتهن من انتفاء المفاسد؛ فلهن التصرف في أموالهن إذا كن رشيدات، ولهن إشهاد الشهود في غيبة أزواجهن.
وكل ذلك لا عهد للعرب ولا لأهل الأديان الأخرى بمثله.
ولهن الخروج لقضاء حوائجهن بالمعروف، ولهن حضور الجمعة والجماعة والعيدين وفي الحديث: ((ولتخرج العواتق، وربات الخدور، وليشهدن الخيرَ ودعوة المسلمين)).
وكانت امرأة عمر بن الخطاب _ رضي الله عنهما _ تخرج إلى صلاة الجماعة وتعرف منه الكراهية فتقول: "والله لأخرجن إلا أن تمنعني فلا يستطيع منعها".
ومعنى كراهته لذلك أنه يود أنها تترك فضيلة الجماعة؛ لما عرف به من شدة الغيرة، ومعنى قولها له: إلا أن تمنعني أي أن تصرح لي بالمنع وهو لا يستطيع ذلك؛ لأنه رأى أنه ليس من حقه عليها، وكان وقافاً عند كتاب الله.
وللمرأة حق مطالبة الزوج بحسن المعاشرة، وطلب عقوبته على ضد ذلك، ويُحكم لها بالطلاق في أحوال معينة، قال الله _ تعالى _: [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] (البقرة: 228).
وأما حرية العمل المرتبط بعمل الغير فأصله أنه لا يضر بأحد؛ لينتفع غيره، ولكنه لا يعمل عملاً فيه اعتداء على حق الغير كاحترام الكليات التشريعية، وذلك بالتحقيق من قبيل رعي الحريات المختلفة؛ لأن مرجع أحكام المعاملات إلى حفظ مجموع الحريات.
وكذلك قد تراعى أعمال تجب على المرء لغيره؛ لإقامة المصالح كما تقدم، أو لبث الخير بين الأمة كالإرفاق والمواساة.
حرية العبيد:
سلط الإسلام حقيقة الحرية على حقيقة العبودية؛ قصداً لعلاجها، وإصلاح مزاجها.
إن الرق شيء قديم في المجتمع البشري من قبل التاريخ، وهو أثر تسلط القوي على الضعيف؛ فكان الرقيق معدودينَ كالحيوان يذيقهم سادتهم النكال؛ فلا يرثي لهم أحد، ولا ينتصف لهم قانون، وقد عذب العرب في الجاهلية بعض الرقيق، فعذبت قريش أَمَةً اتهموها بسرقة وشاح جويرية، ثم تبين أن الحدأة اختطفته، ثم ألقته بمكان فكان ذلك سبب إسلام هذه الأمة، وهجرتها إلى المدينة وكانت تقول:
ويومَ الوشاحِ من تعاجيبِ ربِّنا ** ألا إنَّه من دارةِ الكفرِ نَجَّاني
وقتلت بنو الحسحاس من بني أسد عبدهم سُحيماً الشاعر بتهمة تغزله بابنة سيده.
فمنح الإسلام من الحرية للعبيد ما لم يمنحهم إياه شرع سابق، ابتدأ الإسلام فأبطل معظم أسباب الرق وهي:
1_ الاسترقاق الاختياري: كان الأب أو الأم أو الولي يبيع قريبه لمن يصيره مملوكاً له، وكان هذا الاسترقاق مشروعاً في الشرائع القديمة، وقد ثبت في شريعة التوراة حسبما في الإصحاح 21 من سفر الخروج، والإصحاح 25 من سفر اللاويين.
2_ والاسترقاق في الجناية: بأن يحكم على الجاني ببقائه رقيقاً، وقد كان هذا مشروعاً حكاه القرآن في قصة يوسف بمصر [قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ] إلى قوله:[لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ].
3_ والاسترقاق في الدَّين: وكان مشروعاً عند الرومان أن يأخذ الدائنُ مَدِيْنَهُ إذا عجز عن الدفع فيسترقه، وكذلك كان في شرائع اليونان في عهد سو