دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة والحشود المؤمنة متزاحمة لاستقبال خير البرية صلى الله عليه وسلم ، فكان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها، وقد رأي اليهود صدق بشارة حَبْقُوق: "إن الله جاء من التيمان، والقدوس من جبال فاران لقد أضاء السماء من بهاء محمد، وامتلأت الأرض من حمده"، وبشارة أشعيا: "وما أعطيته لا أعطيه لغيره، أحمد يحمد الله حمداً حديثاً يأتي من أفضل الأرض، فتفرح به البرية، ويوحدون على كل شرف، ويعظمونه على كل رابية". ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل: بل على سعد بن خَيْثَمَة، والأول أثبت . ومكث أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاثًا حتى أدى عن مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيًا على قدميه حتى لحقهما –النبي وأبو بكر الصديق- بقباء، ونزل على كلثوم بن الهَدْم. وأقام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام: الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس ـ يوم الجمعة ـ ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار ـ أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة وهم حوله، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل([1]). ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم بعد الجمعة حتى دخل يثرب في يوم الإثنين، الثاني عشر من ربيع الأول لثلاث عشرة سنة من البعثة النبوية، وكان عمره 53 عاما كاملا، حيث مضى على نبوته 13 عاما، ومن ذلك اليوم الذي دخل فيه نور النبوة المدينة، سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويعبر عنها بالمدينة مختصرًا. وفي صحيح الإمام البخاري-رحمه الله-:«لما سمع الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ، فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ، حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ، أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمُ([2]) الَّذِي تَنْتَظِرُونَ. فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلاَحِ، فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ»([3]). وكان يوم دخول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة يومًا مشهودًا أغر، فقد ارتجت البيوت وارتفعت الأصوات بالحمد والتسبيح والتكبير، وعم الفرح والسرور والبهجة المدينة وتبسم ثغرها، وهي ترفُل في حلل الفخر والاعتزاز، واستقبله زهاء خمسمائة من الأنصار، وتغنت النساء والصبيان والولائد بالدفوف ويقلن:... «طَلَعَ البَدْرُ علينا=مَن ثَنيَّاتِ الوَدَاعِ وجبَ الشُّكرُ علينا=مَا دعا للهِ داعِ أيها المبعوث فينا=جئت بالأمر المطاع» ([4]). فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ يَمْشِى مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وَهْوَ يُصَلِّى فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا([5]) لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: »هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ« فدَعَا الْغُلاَمَيْنِ، فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالاَ لاَ بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ: »هَذَا الْحِمَالُ لاَ حِمَالَ خَيْبَرْ هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ«. وَيَقُولُ: »اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَة فَارْحَمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَة« ([6]). عن أنس رضي الله عنه قال: «لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء»([7]). وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «مَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»([8]). - حلت الأنوار ببيت أبي أبوب الأنصاري رضي الله عنه: لم يكن الأنصار –رضي الله عنهم- من الموسرين لكن كل واحد منهم يحب أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضيافته، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمر بناقته على صف من صفوف الناس إلا ويدعونه للإقامة عندهم، وهو يقول لهم "دعوها فإنها مأمورة" ولما مَرَّ بِبَعْضِ الْمَدِينَةِ فَإِذَا هُوَ بِجَوَارٍ يَضْرِبْنَ بِدُفِّهِنَّ وَيَتَغَنَّيْنَ وَيَقُلْنَ: نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ= يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: »يَعْلَمُ اللَّهُ إِنِّي لأُحِبُّكُنَّ« ([9]). حتى بركت الناقة في محل من محلات بني النجار أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعند باب أبي أيوب الأنصاري واسمه خالد بن زيد النجاري الخزرجي، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب الأنصاري –رضي الله عنه-، ندعه يحكي لنا قصة نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، يقول رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَلَيْهِ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي السُّفْلِ وَأَبُو أَيُّوبَ فِي الْعُلْوِ، -قَالَ- فَانْتَبَهَ أَبُو أَيُّوبَ لَيْلَةً فَقَالَ: نَمْشِى فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَتَنَحَّوْا فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ ثُمَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: »السُّفْلُ أَرْفَقُ«. فَقَالَ: لاَ أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا. فَتَحَوَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعُلْوِ وَأَبُو أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ، فَكَانَ يَصْنَعُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا فَإِذَا جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِهِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْكُلْ. فَفَزِعَ وَصَعِدَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: »لاَ وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ«. قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ أَوْ مَا كَرِهْتَ» ([10]). ([8]) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ح3710. د.رشيد كهوس المقالة نشرت في في صحيفة المثقف الصادرة عن مؤسسة المثقف العربي بأستراليا (العدد: 2660 الثلاثاء 17 - 12 - 2013م)