حين يبزغ فجر الربيع على الدنيا يتبدد ظلامها، ويخضر يابسها، وتكسو الزهور أشجارها... الربيع فصل الجمال؛ يبعث في النفس الراحة والسعادة... لقد امتاز شهر ربيع الأول بالجمال، لا لشيء إلا ليستعد لميلاد أجمل إنسان حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان الربيع كسا الدنيا جمالاً وبهجة، ونضرة وخضرة، فإن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم عطر نسيمه، وزاده رفعة وإشراقا، وبهجة وجمالا... إن حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل الأوحد في كمال الجمال وتناسقه، فهو أشرق الناس وجهًا، وأجملهم مظهرًا ومخبرا، وأحسنهم منطقًا، وأرقاهم خلقًا، وأحسنهم نسبًا، وأطهرهم سيرة، وأنقاهم سريرة... من بلغ في الجمال ما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم! ومن نال منه مثلما نال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم... أما بلغك مدح الله جمال خلقه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم:4)، أما أطرب أذنيك مقولة زوجه عائشة الصديقية-رضي الله عنها-: «كان خلقه القرآن»، ذلك في خُلُقه صلى الله عليه وسلم... فهلا قرأت في خِلقته ما قاله كعب بن مالك رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر"... سل من رأى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة –رضي الله عنهم-، سيقول لك؛ إذا أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أضاء الكون من نور وجهه، وإذا طلع غادر الظلام مكان مطلعه، يراه الخائف فيطمئن، والمريض فيبرأ، والحزين فيفرح، والمكروب فيبتسم، ما رآه إنسان إلا أحبه، ومن ذا الذي يرفض رفقة القمر؟! بل اسمع حكاية أم المؤمنين عائشة الصديقة –رضي الله عنها- وهي تقول: ((استعرت من حفصة بنت رواحة إبرة كنت أخيط بها ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت مني الإبرة فطلبتها فلم أقدر عليها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبينت الإبرة بشعاع نور وجهه فضحكت))" أخرجه ابن عساكر". إن جمال حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوصف، ما استطاع صحابي ولا غيره أن يصف ما كان من جمال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما أرادت أحب الناس إليه عائشة –رضي الله عنها- أن تصفه قالت: "كان إذا رضي أو سُرّ، فكأن وجهه المرآة تلاحك وجهك"، فهل في الوجود صفاء مثلما كان في وجه محمد صلى الله عليه وسلم ، وهل في الوجود إشراق مثلما حوى وجه محمد صلى الله عليه وسلم. فهو الذي تم معناه وصورته ** ثم اصطفاه حبيباً بارئُ النسمِ منزهٌ عن شريك في محاسنه** فجوهر الحسن فيه غير منقسمِ ولله در القائل: محمد بشر لا كالبشر ** بل هو كالياقوت بين الحجر أما بلغك كيف حير جمال النبي صلى الله عليه وسلم جابر بن سمرة ودخل عليه مرة في ليلة مقمرة، فأخذ يقلب نظره في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمر، ثم قال: "لرسول الله أجمل من القمر". ولما اشتاق إلى وصفه "عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر" سأل عنه "الربيع بن معوذ بن عفراء"، قال: يا "ربيع"، صف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: "يا "عبيدة" إذا رأيت رسول الله رأيت الشمس طالعة". لا تعجب، فإن ما قاله ابن عباس-رضي الله عنهما- كان أعجب وأدق وصفًا، فقال: "إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رُئي كالنور يخرج من بين ثناياه". محمد صلى الله عليه وسلم ؛ هو ذلك الجمال الذي جعل "هند بن أبي هالة" يقول في وصفه صلى الله عليه وسلم: "كان فخمًا مفخمًا، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر". وأنى للقمر أن يدنو جماله من جمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد وصف علي رضي الله عنه عنق النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كأن عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم إبريق فضة، وكأن الذهب يجري في تراقيه". فإن كان ذلك قوله في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما بالك بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان علي رضي الله عنه أبدع في ذلك، فإن أنس رضي الله عنه قد فاقه حين مس كف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما مسست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم ". وشعور أوس رضي الله عنه غير إحساس أنس رضي الله عنه، فـأوس كان وصفه بعد أن أخذ بيده صلى الله عليه وسلم فأحس حسن الجمال، فراح يصدح يده ألين من الحرير، وأبرد من الثلج، حتى أنس وهو غلام يقول "لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء"، إنه صلى الله عليه وسلم نور رباني ساطع، وجمال إلهي خالد، إن كان يوسف الصديق –عليه السلام- أوتي شطر الجمال، فإن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم أوتي الجمال كله، لقد منحه الله الكمال البشري في كل صفاته الخَلقية والخُلقية، فوهبه من الصفات المعنوية أقومها وأعدلها، ومن الصفات الحسية أحسنها وأجملها. فهو صلى الله عليه وسلم أجمل الأنبياء على الإطلاق. ولله در شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت –رضي الله عنه- القائل في هذا الجمال: وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني ** وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ خلقت مبرءًا من كل عيب ** كأنما قد خلقت كما تشاء ولد هذا الجمال يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام الفيل من أبوين كريمين هما عبد الله بن عبد المطلب، والسيدة آمنة بنت وهب -رحمهما الله-، وقد توفي والد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وهو لا يزال جنينا في بطن أمه. ولما وضعته السيدة آمنة –رضي الله عنها- أرسلت إلى جده عبد المطلب أن ولد لك غلام (حفيد) فأسرع إلى البيت، وأخذه ودخل به الكعبة وأخذ يدعو الله، ويشكر له ما أعطاه، ومما روي في ذلك أن عبد المطلب أنشد أرجوزة مطلعها: الحمد لله الذي أعطاني ** هذا الغلام الطيب الأردان أرضعته أمه آمنة ثم بعدها ثويبة جارية عمه أبي لهب بضعة أيام، ثم استكملت رضاعه حليمة السعدية من بني سعد بن بكر، وقد امتلأ ثدياها باللبن بعد أخذه، ونالها خير كثير، وانتقلت حياتها من العسر إلى اليسر، ويذكر ابن إسحاق أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يقبل إلا على ثدي واحد، وكأنه فطر على أن يدع الثدي الثاني لأخته من الرضاعة. فكان يوم مولده صلى الله عليه وسلم يوم مولد كل الفضائل والخيرات: الحب والرحمة والعدل والأخلاق الحسان والقيم النبيلة التي كانت الإنسانية في انتظارها منذ أمد بعيد. فالمولد المحمدي لم يكن مولد فرد وإنما كان مولد أمة، ولم يكن مولد إنسان، وإنما كان مولد إنسانية، حيث رفع الله تعالى بمولده الشريف مقام الإنسانية، ونهض بمستواها إلى المرتبة التي كان يحلم بها الحكماء، ويرونها من أماني الخيال؛ فصارت الإنسانية عقيدة وديناً، بعد أن كانت أمنية ووهماً، وقامت لها في الأرض دولة تعد الصدق من دعائم دينها، والحياء من شعب إيمانها، والرحمة من أسلحة جهادها، وإقامة العدل من شعائر مجتمعها، وإماطة الأذى عن كل طريق خلقاً إسلاميَّاً يتخلَّق به كلُّ من سار على خطى هذا الحبيب العظيم صلى الله عليه وسلم. لقد كان المولد النبوي الشريف إطلالة للرحمة الإلهية بالنسبة للتاريخ البشري جميعه، فلقد عبر القرآن الكريم عن وجود النبي صلى الله عليه وسلم بأنه «رحمة للعالمين»، وهذه الرحمة لم تكن محدودة، فهي تشمل تربية البشر وتزكيتهم وتعليمهم وهدايتهم نحو الصراط المستقيم، وتقدمهم على صعيد حياتهم المادية والمعنوية، كما أنها لا تقتصر على أهل ذلك الزمان بل تمتد على امتداد التاريخ بأسره ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾(الجمعة: 3). إن يوم ميلاد محمد بن عبد الله العربي القرشي الهاشمي صلى الله عليه وسلم علامة مضيئة في التاريخ الإنساني ليس للمسلمين فحسب وإنما للإنسانية جمعاء على اختلاف مللها وتعدد نحلها. لم يكن ميلاده صلى الله عليه وسلم حدثا تاريخيا عابرا يمر عليه المؤرخون مرورا، وإنما مثـّل من خلال نبوته ورسالته أبرز دعوات التغيير والتربية في دنيا البشرية على الإطلاق. فقد استطاع أن يجعل من الجزيرة العربية مصدر إشعاع عمراني أخوي رباني، قدمت الأمة من خلاله للعالم صياغة روحية ومادية حملت بين طياتها معالم البعد الرسالي لدعوة الإسلام عقيدة وشريعة دعوة وتربية ومنهاج حياة. حيث تمكن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من أن يتبوأ قمة الهرم ليكون على رأس المصلحين الذين كان لهم أثر بارز في توجيه البشرية نحو الفضيلة والرشاد، وفي هذا يقول أمير الشعراء أحمد شوقي: المصلحون أصابع جمعت يدا ** هي أنت بل أنت اليد العصماء إن ميلاد فخر الكائنات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يعد ميلادا جديدا للإنسانية كلها. فحتى تشريفه للدنيا لم يكن هناك فرق بين الأسود والأبيض، ولا بين الليل والنهار، ولا بين الورد والشـوك. كانت الدنيا وكأنها في مأتم عام، والفوضى تسـود الوجود... وبفضل النور الذي أنـار بـه الوجود افترق الضياء عن الظلام، وانقلب الليل إلى نهار، وانقلب الكون إلى كتـاب يمكن قراءته كلمة كلمة وجملة جملة وفصلا فصلا... كأن كل شيء قد بعث من جديد، ووصل إلى قيمته الحقيقية. أجل!..فهو بالرسالة النورانية التي حملها بيديه الشريفتين كان يقوم بتنظيم الدنيا من جديد حسب قيم السماوات، وبوظيفة الترجمان للحقائق الموجودة خلف أستار الوجود، وبتقديم تفسير جديد ونظرة جديدة للأشياء وللحوادث. فقد كان الوجود قبله دون معنى ودون روح، قد تمزقت الروابط فيه، وأصبح كل شيء غريبا عن الآخر. كأن الجمادات كانت من قبله رموزا لمسيرة العبث في مسرح الوجود، وتبدو الأحياء وكأنها في قبضة الانتخاب الطبيعي، وفي كل يوم بقبضة موت مختلف. وفي مثل هذه الوحشة المظلمة كان الإنسان يئن من الفراق كل آن كيتيم وكمظلوم. بالنور الذي نشره انـزاحت الأستار وزال سحر الظلام فجأة، وفرّت الشـياطين، وهُزمت الضلالات واستقرت في أعماق الجحيم، وتغيرت ماهيات الأشياء، فانقلب الهدم إلى بناء، والانقراض إلى التعافي. وبدأ المجيء إلى الدنيا والرحيـل عنها يأخذ شكل مراسيم عيد، المجيء إليها عيد ميلاد، وفراقها عرس رحيل. منذ أن داعب نوره صلى الله عليه وسلم رءوسـنا زال عن أرواحنـا رعب الفناء، وفاضت بشائر الوصال من ديار الأحبة على الصدور الملتاعة. وبإكسير الحياة الذي نفخه في قلوبنا وفي قلب الإنسانية كلها بدأنا ندرك أنفسنا ونفهمها، وندرك ماهية العلاقات بين الأشياء، ونستطيع تقييم القابليات الموجودة في ماهيتنا وجوهرنا، ونحدس بُعد اللانهاية الموجودة لدينا. لولاه لما اكتشفنا هذا العمق الموجود في أرواحنا، ولا استبشرنا وفرحنـا بالرحلة التي تمر من القبر نحو اللانهاية. هو الذي نثر على قلوبنا انفعالات الوجد والحب والعشق... هو الذي أنار عيوننا بالنور... وهو الذي هيأنا للرحلة إلى بلد الأبد والخلود. هو بالنسبة للعالم الذي نرحل إليه ونصله. المضيف ومستقبل الضيوف ودليلهم، وشـفيع لنا. لذا كانت هناك مسؤوليات معينة لنا تجاهه، ولا يمكن أن نبقى غير مبالين بهذا الأمر أبدا. ولكن الغريب أننا طوال عصور عديدة بقينا غير مبالين برمز الضياء هذا وبرسالته النورانية... لا، ليس فقط غير مبالين، بل أحياناً تصرفنا دون توقير واحترام تجاهه. إن الله بعث صاحب هذه الرسالة الكريمة صلى الله عليه وسلم ؛ لتكون لنا به أسوة حسنة، أي لنحاول السير معه من ورائه؛ فنضع قدمنا على آثار قدمه الشريفة، لا نخرج عن طريقه إلى أي طريق آخر، وإن طريقه لا تحوجنا إلى التماس طريق آخر، لا طريق موسكو، ولا طريق لندن، ولا طريق واشنطون، ولا طريق باريس، وكل ما عرف الناس وسيعرفون من حق أو خير فإن النظام المحمدي يدل عليه، ويوصل إليه من أيسر الطرق، وأجملها. ولله درّ الإمام البوصيري –رحمه الله-القائل: دع ما ادّعتْهُ النصارى في نبيهم ** واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف ** وانسب إلى قدره ما شئت من عظمِ فإن فضل رسول الله ليس له ** حدٌّ فيعرب عنه ناطقٌ بفمِ مسك الختام: إن هذا الحدث العظيم –مولد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم- الذي كان له تأثيره البالغ في حياة الإنسانية ومسيرتها طِوال خمسة عشر قرناً منَ الزّمان، سيظلّ المنهل العذب المورود لكل البشرية في كل زمان ومكان، وسيظل يَشرق بنوره الوهاج على الكون كله، ويشد بهداه الحائرين في دروب الحياة، إلى أن يرث الله الأرضَ ومَنْ عليها وهو خيرُ الوارثين. وختاما: إنه على الرغم من كثرة ما نكتب ونقول عن سيد الوجود وفخر الكائنات صلى الله عليه وسلم، فإن النفس تواقة دائما إلى المزيد... كأني أشعر أن الكلمة التي يجب أن نقولها في ح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم نقلها بعد..!