إن مواصفات السنن القرآنية تعنى بمميزاتها الشكلية؛ بحيث لا يعزب عن ذي لب أن القرآن الكريم يتصف بمواصفات ربانية وخصائص ثابتة كما جاء في آياته البينات، وحيث إن سنن الله نستخرجها ونستنبطها من القرآن الكريم، فلا غرو أن تكون مواصفاتها وخصائصها ومميزاتها كالقرآن الكريم. ومواصفات سنة الله وخصائصها و مميزاتها التي تميزت بها أنًى وُجِدت وُجِد الصدق والعدل، وحيثما حلت حل الصدق والوفاء، وتبقى كلمات الله دائما هي العليا. ونجمل مميزات وخصائص ومواصفات سنن الله في أربع مميزات وخصائص: 1- الصدق. 2- العدل. 3- العلو والرفعة. 4- القول الفصل. نقف مليا مع هذه المواصفات لنسلط عليها بعض الأضواء لنستضيء بنورها: 1- الصدق: قال الحق جل وعلا: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}(1)، وقال جل ذكره: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}(2)؛ إن صدق سنن الله يعني «وقوع مضمونها من حيث كونه خبراً سبق علم الله به، وكونه في الكتاب مسطورا، ولنفي الله إخلاف الوعد وذمه للمخلفين له، ومع كل هذا وذاك فالله فعال لما يريد، ما فعل هذا جبرا، ولا فرض عليه فرضا. إنما حرم الظلم على نفسه وجعله محرما بين مخلوقاته من إنس وجان، ومضت كلماته التامات لا تحابي أحدا، ولا تميز بين رفيع ووضيع، ولا بين طويل وقصير، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين غني وفقير إلا بالتقوى، وبمقتضى دلالات كلمات الله المتميزة بميزتي الصدق الذي لا يشوبه باطل، والعدل الذي لا يشوبه ظلم أو استبداد»(3). ويظهر هذا الصدق جليا في الوعود القرآنية، قال الحق جل وعلا لنبيه الكريم:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}(4)، وتمضي الأيام ويتحقق الوعد القرآني بعد بضع سنين من نزول الآية، فعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحا منصورا بعدما خرج منها مهاجرا إلى المدينة. وقال الباري سبحانه وتعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِيـنَ وَيَهْدِيَكُمْ صِـرَاطًا مُسْتَقِيمًا}(5)؛ فتحقق الوعد القرآني بفتح مكة وهي الغنيمة المعجلة،ثم تتالت باقي الوعود في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الفتوحات الإسلامية التي جعلها الله على أيديهم، ويبقى الوعد مفتوحا إلى آخر الزمان ويدخل في (وعدكم الله مغانم كثيرة) كل الغنائم التي سيغنمها المسلمون إلى يوم القيامة. 2- العدل: إن البشرية ترنو دائما «إلى إيجاد قوانين تتصف بالعدل وتنفي الظلم والجور، وكم يكون مصاب البشر أليما عندما يجدون القوانين التي يرجونها لإقرار العدل والإنصاف.. تقنن الظلم بحيث يكون هو النظام الذي يحكم في رقاب العباد. إننا لا نريد بالعدل تطبيق القاعدة القانونية ؛ فجور القاضي وظلم الحاكم في الحكم بخلاف القانون ليس هو المراد هنا، بل المراد هو اتصاف القانون بالعدل. إن الذين يضعون القوانين البشرية لا يمكنهم أن ينسلخوا من طبائعهم البشرية ؛ ولذلك نراهم يميلون بالقوانين تجاه الفئة الحاكمة، فتعطى من المصالح والمنافع ما لا يعطى غيرها، وهي في هذه الحالة تقرر الظلم وهي تعلم بذلك، وفي بعض الأحيان تضع القوانين الظالمة بسبب جهلها بالعدل الذي يجب أن تقننه. (...) فواضعو القوانين البشرية بشر فيهم ظلم وجهالة، وبسبب ذلك يقررون كثيرا من القواعد القانونية التي تتصف بالظلم»(6). أما سنن الله وناموسه الكوني وقانونه العادل ليس من وضع البشر، بل هي سنن بينها الله في كتابه الحكيم، والله يتصف بالعدل التام {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}(7)، وكذلك سننه ؛ فالسنن مصطبغة بالعدل اصطباغا تاما، فلا تميل تلك السنن إلى جانب ضد جانب، بل هي عامة وشاملة ومطردة ولا تحابي أحدا حاكما كان أم محكوما مؤمنا أم كافرا، رجلا أم امرأة، الكل سواسية في ميزانها ومنظارها {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(8)؛ فسنن الله وقوانينه عدل كلها وإنصاف للجميع، تضع كل شيء في موضعه {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(9). قال الإمام قتادة –رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية: «صدقا فيما قال، وعدلا فيما حكم»(10)، وقال الحافظ ابن كثير –رحمه الله: «فكل ما أخبر به فهو حقّ، لا مرية فيه ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلا عن مَفْسَـدة»(11). هكذا كان عدل الله بالمرصاد للطغاة المكذبين، وكان صدق الآيات الحقيقة القاهرة بأنوارها للكاذبين. ولنا في قصة سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم خير دليل على ذلك العدل: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّـادِقِينَ}(12). 3- العلو والرفعة: قال الباري جل وعلا: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّـفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(13)؛ أي «كلماته القدرية وكلماته الدينية هي العالية على كلمة غيره»(14)، وقد قرئ {كلمة الله} بالنصب. و«لكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى. لأنها تعطي معنى التقرير. فكلمة الله هي العليا طبيعة وأصلا»(15). وكلمةُ الله هي الكلمة الباقية الطيبة، وهي الكلمة العليا على الدوام؛ ولهذا لم يعطفها على ما قبلها. وهكذا فسنن الله وقانونه العادل هي الظاهرة والعالية فوق كل القوانين، وهي كلمة «نافذة بتمامها لا تعترضها كلمة أيٍّ كان، بذلك استحقت العلو والرفعة، وكلمات الله نور وبرهان مبين، وكلمة الجاحدين ذليلة حقيرة مهما ساندتها من عدة وعدد فمآلها إلى زوال وخسف، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون والمشركون. فلابد من ظهور دين الحق وكلمات الله»(16). ولما كانت كلمة الله هي العليا فإن من سار على منهاجها اتصف بصفاتها: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(17). كانت كلمة الله هي العليا، واجتمعت في كتاب الله تعالى فكان هو المهيمن على كل شيء وعلى من سواه من الكتب المنزلة السابقة، وعلى كل فكر أنتجه البشر. 4- القول الفصل: قال الحق جل ذكره: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْـلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}(18)؛ أي:«حق وجدُّ يفصل(19) بين الحق والباطل»(20)، يقول الشهيد سيد قطب -رحمه الله-: «يقسم الله بهذين الكائنين وهذين الحدثين : السماء ذات الرجع. والأرض ذات الصدع.. حيث يوقع مشهدهما وإيحاؤهما، كما يوحي جرس التعبير ذاته، بالشدة والنفاذ والجزم.. يقسم بأن هذا القول الذي يقرر الرجعة والابتلاء أو بأن هذا القرآن عامة هو القول الفصل الذي لا يتلبس به الهزل. القول الفصل الذي ينهي كل قول وكل جدل وكل شك وكل ريب»(21). عَنِ الْحَارِثِ الأعور قَالَ : «مَرَرْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الأَحَادِيثِ، فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلاَ تَرَى أَنَّ النَّاسَ قَدْ خَاضُوا فِي الأَحَادِيثِ. قَالَ: وَقَدْ فَعَلُوهَا؟! قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ أَمَا إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَلاَ إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ. فَقُلْتُ: مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ؛ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصل لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِين، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصراط الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلاَ يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ}(22)، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِىَ إِلَى صراط مُسْتَقِيمٍ». خُذْهَا إِلَيْكَ يَا أَعْوَرُ»(23). وبما أن سنن الله قرآنية فإنها تتسم بسماته، فهي تفصل بين الحق والباطل، وبين المتقين والظالمين، والكافرين والمؤمنين، وقاطعة لكل من ناوأها وعاداها وأعرض عنها. إنها كلمات الله التامات، ووعوده الحقة، وعهوده الثابتة، «تلك الكلمات الحاسمات بين الحق والباطل، بين الجد والهزل: الكلمات الصادقات الصارمات القاطعات التي لا يبقى بعدهن غبش ولا لبس ولا شكوك ولا حيرة ولا ظنون»(24). إنها حجة الله البالغة وبرهانه الصادق وآياته البينات الدامغة للباطل، الرافعة لراية الحق المبين، الدالة على وحدانية الخالق سبحانه. الهوامش: 1 - سورة النساء: من الآية 87. 2 - سورة النساء: من الآية 122. 3 - التجديد في دراسة الحديث النبوي الشريف على نور السنن الإلهية، أ.محمد معمر جابري، مؤسسة الندوي للدراسات والأبحاث العلمية وجدة، ص132. 4 - سورة القصص: من الآية 85. 5 - سورة الفتح: 20. 6 - المدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي، عمر سليمان الأشقر، ص84. 7 - سورة الكهف: من الآية 49. 8 - سورة المائدة: من الآية 50. 9 - سورة الأنعام: 115. 10 - تفسير ابن كثير، 2/168. تفسير البغوي، 3/181. 11- تفسير ابن كثير، 2/168-169. 12- سورة يوسف: 51. 13 - سورة التوبة: من الآية 40. 14 - تفسير السعدي، 1/337. 15 - في ظلال القرآن، الشهيد سيد قطب، 3/1656. 16 - التجديد في دراسة الحديث النبوي الشريف على نور السنن الإلهية، ص 140. 17 - سورة آل عمران: 139. 18 - سورة الطارق: 13-14. 19 - وفي تفسير السعدي:«أي: حق وصدق بين واضح». ص919. 20 - تفسير البغوي، 8/395. 21 - في ظلال القرآن، 6/3880. 22 - سورة الجن: 2. 23- سنن الترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، ح2906، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ. 24 - التجديد في دراسة الحديث النبوي على نور السنن الإلهية، ص142. بقلم: د.أبو اليسر رشيد كهوس مقال في منشور في مجلة المنهل السعودية: العدد 624، المجلد 73، العام 77، محرم-صفر 1432هـ-يناير-فبراير 2011م.