حوار مع مدير مؤسسة الندوي للدراسات والأبحاث العلمية

حاوره: رشيد كهوس

مجلة الفرقان الصادرة عن جمعية المحافظة على القرآن الكريم-الأردن

السنة الثامنة، العدد 63، ربيع الأول 1428هـ-نيسان 2007م.

 

يقول ربنا تبارك وتعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137]. إن الاهتمام بالسنن الإلهية يمنع من السقوط في حمأة الرذيلة ومهاوي الهلاك؛ فالأمة التي تعتبر وتتعظ بسنة الله في الأمم الغابرة، تبني مستقبلاً زاهراً مفروشاً بالورود والرياحين. أما الأمة التي تغفل عن هذه السنن فلا شك أنها تهوي بها الريح في مكان سحيق؛ فلا مستقبل يرجى ولا حضارة تبنى.

حول هذا كان لقاؤنا مع الأستاذ محمد بن معمر جابري الحسني -مدير مؤسسة الندوي للدراسات والأبحاث العلمية في المغرب-؛ حيث يعد ضيفنا من أبرز الذين كتبوا في علم السنن الإلهية، تأصيلا وتقعيدا واستنباطا.

وقد صدرت له عدة كتب منها:

1. سلسلة (السنن الإلهية ضوابط العلوم المعرفية) في سبعة أجزاء.

2. الحوار: آداب، أساليب، تقنيات، مواقف.

3. اليقظة القلبية.

4. رؤية الله جل جلاله.

5. لمحة حول فقه الأولويات.   

الفرقان: الأستاذ محمد جابري، ما هي المعطيات التي دفعتك للخوض في هذا العلم، أو بتعبير آخر ما هي قصتك مع علم (السنن الإلهية)؟

الأستاذ جابري: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه… في البداية أشكر مجلة (الفرقان) على هذه البادرة الطيبة، وأسأل الله تعالى أن يبارك جهود أصحابها.

الفضل في ذلك منَّة من الله سبحانه؛ فلقد تلقيت عن شيوخي تربية ربانية أسّها الكتاب والسنة، والتربية الربانية هي دلالة على الله ومعرفة به قبل كل شيء، من هنا كان المعوَّل عليه في تحصيل العلم هو الاستمداد من فيض الله وفضله، {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ الله وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الملك:26]، وكثيراً ما كنت أقف عند مواصفة الخضر عليه السلام {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف:65]، وحينما شرح الله صدري للسنن الإلهية وجدت نفسي أمام عقبات فقهية كبيرة، وبخاصة أمام من يرفض تعليل أفعال الله سبحانه؛ فوجدت الحل عند الفقهاء الربانيين، واعتمدت ضوابطهم، وانطلقت غير آبه بعلماء الكلام.

ولما عمدت إلى تقعيد هذه السنن استصغرت نفسي، وخشيت أن أقول على الله ما ليس لي به علم، والأمر محفوف بخطورة كبيرة؛ إذ التقوُّل على الله من أعظم الكبائر. ولما شرعت بحثاً في القرآن الكريم فوجئت بوجود كل شيء مهيأ، وما كان عليَّ إلا التقاط درره، وجمعها في ضوابط وقواعد وخصائص، وقد جمعتها في كتاب “التجديد في دراسة الحديث النبوي على نور السنن الإلهية”.

الفرقان: هل لك أن تذكر لنا تعريفاً موجزاً للسنن الإلهية وأهميتها ومكانتها بين العلوم الشرعية الأخرى؟

الأستاذ جابري: السنن الإلهية عبارة عن العهود التي عهد الله بها إلى كل شيء في هذا الوجود؛ ليندرج الكل في انسجام ووئام، {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]. {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:12]. {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طـه:115]. {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68]. والله تعالى وَفِيٌّ إذا وعد، ورحيم إذا توعَّد، وعد الله {إِنَّ الله لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]. فالسنن الإلهية القرآنية تأتي لتفسير السنن الكونية أبدع تفسير وأروعه.

أما أهميتها فتتجلى في بيان قوله سبحانه: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]. والسنن الإلهية تجري على اضطراد واحد، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولا تغييراً؛ إذ هي كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر، وتأتي على شكل معادلات رياضية، كلما كانت هناك مقدمات دلت دلالتها على نتائجها: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ… فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 9-16]. {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:18]. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ… إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 23-31]. {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ . إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 33-34]. {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ . كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 41-42].

 وهذا ما يؤهلها لدخول عالم الدراسات العلمية وتوظيفها في كل مجالات الحياة؛ ففضلاً عن علوم التاريخ التي جاءت بصددها الآيات يمكن استخدام السنن الإلهية في جل العلوم الإنسانية كالعلوم السياسية والاجتماعية التي ظلت لحد الساعة تائهة تتضارب فيها الآراء وتختصم فيها النظريات؛ لَمّا لم تأخذ منطلقاتها من مصدرها الرباني لتفسير الأحداث والوقائع وفق الضوابط الربانية.

كما يمكن استخدامها في علم أصول الفقه؛ لتحديد ضوابط فهم النصوص، في وحدة متكاملة متناغمة، لا تضارب فيها ولا تضاد. وبخصوص علم الحديث فقد بقيت علوم دراية النص لا يقربها إلا الجهابذة، وجاءت السنن الإلهية لتسلط عليها أضواءها فينكشف الزائف من النصوص ولو رواه أكبر العدول الثقات، وهو ما يطور علوم الحديث فتضحى النصوص إما صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما مكذوبة عنه! إلى غير ذلك من المجالات التي يمكن للسنن الإلهية اقتحامها.

الفرقان: بعض الكتّاب يقسم السنن الإلهية إلى قسمين: سنن جارية وأخرى خارقة، هل هذا التقسيم سليم؟

الأستاذ جابري: هذا التقسيم غير صحيح؛ إذ السنن الإلهية منسوبة للرب سبحانه: {وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44]. أما فيما يتعلق بالسنن الإلهية الكونية؛ فتشتمل على خوارق من منظور الإنسان، أما من منظور السنن الإلهية فلا {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فلم تخرج ولادة عيسى عليه السلام عن إرادة الله.

الفرقان: هل معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء خاضعة للسنن الإلهية؟

الأستاذ جابري: كما أسلفت؛ ليس هناك سنن خارقة في حق الله؛ إذ كلُّ الأمور تجري بإرادته سبحانه؛ فمثلاً: عهد الله تعالى للمتقين: {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2]؛ فكلام عيسى عليه السلام في المهد جاء خرقاً للسنن الكونية من منظور بشري، لكنه جاء نصرة لمريم لما تمثلت بالتقوى ثانية بعدم تكليم البشر، فكان المخرج الموعود للمتقين في حقها.

لنأخذ مثلاً أدعية الأنبياء: لم يستجب الله جل جلاله دعاء موسى عليه السلام -الذي جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ . قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ . وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ . وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ . قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [الشعراء: 10-15]- لِمَا سبق عهده لأمه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].

كما عدَّل سبحانه دعاء إبراهيم عليه السلام؛ حيث قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126]. فلكي لا تنخرم العهود الربانية وتضحى الدنيا دار جزاء؛ عدَّل سبحانه دعاء إبراهيم بقوله: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، ثم ما لبث أن جاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وحرَّم الحَرَم على الكافرين؛ فكانت استجابة كاملة لدعاء إبراهيم عليه السلام.

يتضح من هذه الأمثلة وغيرها أن الأمر كله لله، وأنه سبحانه اختص بالخلق والأمر، من هنا كان قوله تعالى لسيدنا محمد r: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِله} [آل عمران:154].

ولما عزب هذا الفهم عن الناس خاضوا في فلسفة التخيير والتسيير! فلا تخيير ولا تسيير؛ ولكن كما جاء في الحديث القدسي: “إنما هي أعمالكم أحصيها لكم؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه”.

 ويأتي جزاء الأعمال من جنسها؛ إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} [البقرة:10]، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، ويستثنى ما لا يليق بجلال الله سبحانه: {فَقَدْ خَانُوا الله مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:71].

أما كرامات الأولياء؛ فقد يتنطع لها المتنطعون لقلة إدراكهم وسوء أدبهم مع الله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً}، [الزخرف:32]، وفي زماننا -حيث استبد خوف البشر بالقلوب، وسيطرت الحداثة العقلانية على العقول- يستعلي بعض الأكاديميين ممن لم تمحِّصهم تجربة، ولم يتذوقوا طعم الفراسة والإلهام والكرامة وحتى الرؤيا الصادقة ينكرونها، وذلك مبلغهم من العلم. والعناية بالنفحة الربانية التي استودعنا الله بقراءة القرآن وذكر وتسبيح الله تعالى وغير ذلك، تحيا بها القلوب، والتي تستمد حياتها مما جاء من عند ربها من ذكر لله وقراءة قرآن وتسبيح وغير ذلك، كما يستمد الجسد حياته بأكله مما ينتجه التراب. لهذا نعى الله على المنافقين موت حواسهم الباطنة، فقال سبحانه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [لأعراف:179]، وتجد المنافق ينمِّق الكلام تنميقاً، ويعتني بالجسد عناية كل زينة: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4].

 وتأتي الكرامات (الإلهام، الفراسة، الرؤيا الصادقة) تثبيتاً للصادقين، ومزيد علم يفتح الله بها مغاليق الأمور: {وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282]. وما فتنة الرؤى التي يعيشها المغرب في زماننا إلا إنذاراً للظالمين؛ ليتوبوا إلى ربهم قبل فوات الأوان: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ لَهَا مُنْذِرُونَ . ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 208-209].

واختصاص الله تعالى بالخلق والأمر؛ لم يترك أيَّ شيء في الوجود خارج ضوابط السنن الإلهية: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]. وهذه الشمولية خصيصة من خصائص السنن الإلهية؛ إذ الله بكل شيء عليم. ولما غاب هذا الأمر عن الفقهاء والأصوليين تساءلوا في استغراب: كيف تحكم النصوصُ المتناهيةُ الوقائعَ والأحداثَ اللامتناهية؟! فاحتاجوا للإجابة عن السؤال تقعيدَ القواعد الفقهية. وهو جهد مشكور، لولا أنها أغلبية غير شمولية.

كما يوضح اختصاصه بالخلق والأمر؛ أن القرآن الكريم أمر من أمور الله، لا خلق من خلق الله. ولو أدركت المعتزلة الفرق بين الخلق والأمر؛ لما كلفت نفسها فتنة خلق القرآن، ولو أدركوا أيضا وصية رسول الله r عن طريق الرؤيا التي رآها الإمام الشافعي؛ حيث يروي ابن عساكر في “تاريخ دمشق” أن الربيع قال: “خرج الشافعي إلى مصر وأنا معه، فقال لي: يا ربيع، خذ كتابي هذا وامض به، وسلِّمه إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وائتني بالجواب. قال الربيع: فدخلت بغداد، ومعي الكتاب، فلقيت أحمد بن حنبل صلاة الصبح، فصليت معه الفجر. فلما انفتل من المحراب سلَّمت إليه الكتاب وقلت له: هذا كتاب أخيك الشافعي من مصر، فقال أحمد: نظرتَ فيه؟ قلت: لا. فكسر أبو عبد الله الختم، وقرأ الكتاب، فتغرغرت عيناه بالدموع. فقلت: أيش فيه يا أبا عبد الله؟! قال: يذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل، واقرأ عليه مني السلام، وقل: إنك ستُمتحن وتُدعى إلى خلق القرآن فلا تجبهم، فسيرفع الله لك علماً إلى يوم القيامة. قال الربيع: فقلت: البشارة. فخلع أحد قميصيه الذي يلي جلده ودفعه إليَّ فأخذته، وخرجت إلى مصر، وأخذت جواب الكتاب، فسلَّمته إلى الشافعي… (انظر: “مختصر تاريخ دمشق” لابن منظور).

قلت: لو أدركتِ المعتزلة ما اقتضاه التشريع من كون الخلق والأمر شيئين متكاملين، وليسا متشابهين؛ بل الخلق صنع الله والأمر توجيه الله، وهو وحي من كلام الله، وكل ما يمت لله بصلة فليس له علاقة بالخلق. ومن هنا نرد احتجاجهم بقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، بأن ليس كل محدث مخلوق. ويقول الحجوي: “ومِنْ أعجب ما يراه الناظر في هذه المسألة أن ابن حنبل وحزبه تحرجوا أن يقولوا: إن القرآن مخلوق. لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن السلف الصالح، وأنعم وأكرم بالوقوف عند حد ما ورد، لكنهم أنفسهم لم يقفوا عند حد ما ورد؛ بل قالوا: إنه غير مخلوق وإنه قديم. وكلا اللفظين لم يردا أيضاً؛ فكان الاعتراض مشترك الإلزام؛ بل ورد في القرآن: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2]. ولعمري أنه لا فرق بين محدث ومخلوق…” (الفكر السامي: 3/22). يا لغرابة الاستنتاج! أية علاقة بين الخلق والحدوث؟! فالقرآن أمر من أمر الله، وليس خلق من خلق الله! والإمام أحمد كان له سند من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي رؤيا الإمام الشافعي ووصية الرسول r، وأنَّى للأكاديميين فقه ذلك؟!

الفرقان: في كتابك “الفقه المنهاجي” الذي تحدثت فيه عن ضوابطه، أسميته بهذا الاسم ولم تسمِّه بـ(السنن الإلهية)، فهل ثمة فرق بين (الفقه المنهاجي) و(السنن الإلهية)؟

الأستاذ جابري: هناك فرق شاسع بين (الفقه المنهاجي) و(السنن الإلهية)؛ فـ(الفقه المنهاجي): هي النظرة الربانية بعين ناقدة ثاقبة شاملة تعتمد السنن الإلهية ضابطاً ومقياساً. بينما السنن الإلهية هي الضوابط والمقاييس التي بها نقيس صواب الأمر وسداده، أو انحرافه وانعراجه.

الفرقان: نلاحظ في كتاباتك وخصوصاً (سلسلة السنن الإلهية) في أجزائها السبعة، اعتمادك بشكل كبير على القرآن الكريم لاستنباط هذه السنن؛ حتى لا تكاد تخلو صفحة من آية قرآنية، ما السر في ذلك؟

الأستاذ جابري: السنن الإلهية وحدة متكاملة؛ شملها القرآن وحثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على التزام القرآن، بكونه المخرج من كل الفتن؛ فلا مناص لنا إذاً -إن نحن رُمنا سواء السبيل- من الاعتصام بالوحدة الكلية الشاملة لكل عهود الله في الكون؛ أن نعتصم بالسنن الإلهية؛ إذ هي المخرج، وهي الملاذ عند كل الشدائد. فكثير من الآيات بقيت عند المفسرين بغير قول حاسم حتى حسمت السنن الإلهية مضمونها، وجاءتنا بالقول الشافي، وكم تناول الفقهاء السيرة الشريفة بالعاطفة الجياشة، فأساؤوا إساءة بليغة الأدب مع الله، وإن راموا الدفاع عن رسول الله r. واقرأ -مثلاً- ما جاء في تفسير سورتي الضحى والشرح وبداية سورة الفتح.

فقد نجد في السنة المشرفة بعض السنن الإلهية لكنها غير شاملة لكون الرواة لم ينقلوا إلينا كل أقواله صلى الله عليه وسلم؛ مثلاً : عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُل الإِيمَانُ قَلْبَهُ، لا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِم؛ فَإِنَّهُ مَن اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ الله عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ الله عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ” (رواه أبو داود في سننه: كتاب الأدب، باب في الغيبة). يتضح من الحديث أن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته، ويفتضح في قعر بيته، ويأتي فيه الجزاء من جنس العمل.

وعن عبد العزيز الشامي عن أبيه -وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه؛ قلَّ شكره، وحَبِط عمله. ومَنْ زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئاً؛ فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه؛ لقوله: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} (انظر: تفسير الطبري، تحقيق: أحمد شاكر، 12/484).

الفرقان: كلمة ختامية.

الأستاذ جابري: سألت الله جل جلاله في سلسلة (الفقه المنهاجي) أن يهيئ سواعد لتستخرج سنن الله من القرآن الكريم؛ لتكون عوناً للباحثين، ومصدر إلهام وتوجيه للعلماء. وأظن أن الأمر ما زال في بدايته ونحن مطالبون:

أولاً: ببناء الفقه المنهاجي برمته؛ فقد اعتمد الفقهاء سابقاً في نسج نسيجهم الفقهي على آيات الأحكام، التي حددوها بخمسمئة آية، واتضح في زماننا أن القرآن كلَّه آياتُ أحكام، ومصدر توجيه وإلهام. وقد جنى الفقه علينا فاتبعنا الظالمين وركنَّا إليهم؛ خلافاً لقوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود:113].

وهذا الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض هو سبب الخزي الذي توعد الله به اليهود، إلا أنه عامٌّ لكل من فعل فعلهم أو سلك سبيلهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].

ثانياً: تطهير السنة المشرفة بعرضها على السنن الإلهية؛ لكشف ما التصق بها من أباطيل؛ سواء من حكام الجور أو من المتزلفين إليهم أو من غيرهم.

ثالثاً: إعادة كتابة التفسير بأسلوب لا يخالف السنن الإلهية ولا يقول زوراً، ولا يعدد المفاهيم المتناقضة للآية الواحدة.

والله سبحانه نسأل أن يسخِّر السواعد لذلك، وهو على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.



المنشورات ذات الصلة