نبي الرحمة والسلام صلى الله عليه وسلم

 

أحببتُ أن أسوقَ بعض النقول، وأغلبها لكتاب غربيين ينطقون بالحقيقة، ويشهدون بالصدق للرسالة الخاتمة في حق نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام؛ أبدأ في هذه المقالة بقصيدة للشاعر الفرنسي المسيحي "لامارتين  [1] Lamartine" يصف فيها سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم ويمدحه، ويرد بهذه القصيدة على مجموعة من الفرنسيين ممن كانت بضاعتهم النيل من نبي الرحمة والسلام -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- والتشكيك في دينه، فكتبها شهادةً منه بصدق رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما تحمله من رحمة وسلام للبشرية جمعاء، وما حققته من انتصارات بقوة العقيدة والإيمان. نقلها بالفرنسية الدكتور عبد الرزاق السنهوري –رحمه الله-:

يقول الشاعر: "أبدًا..... لم يوجد إنسان قام لهدف أسمى من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هدفه تجاوز الحدود البشرية، لقد قضى على الخرافات التي تحول بين الإنسان وخالقه....

إنه جدد الإيمان بالله كعقيدة سماوية وعقلية بعد أن كانت ضائعة في فوضى الوثنية والأصنام المادية المشوهة بالشرك.

أبدًا.... لم يوجد إنسان أدى رسالة في مثل هذه العظيمة، بإمكانيات محدودة تنحصر في شخصه وحفنة من صحابته في ركن ناء في الصحراء الجرداء.

وأخيرًا...لم يستطع إنسان أن يؤديَ في وقت قصير هذه الرسالةَ التي أحدثت ثورةً عالمية خالدة –إذ إنه في أقل من جيلين سيطر الإسلام على قارات ثلاث تمثل كل العالم المأهول: في فارس وخراسان وتركستان وغرب الهند فضلا عن سوريا ومصر والقارة الإفريقية الشمالية المعروفة في ذلك العصر وأكثر جزء البحر الأبيض المتوسط والأندلس وأجزاء من بلاد الغال (فرنسا).

هذه الرسالة العظيمة تحققت في وقت قصير مع قلة الإمكانيات وعظمة النتائج، وهذه العناصر الثلاثة تقاس بها عبقرية الرجل.

فمن ذا الذي يجرؤ على أن يوازن من الوجهة الإنسانية أي شخصية تاريخية عصرية بمحمد صلى الله عليه وسلم. إن المشهورين منهم إذا كانوا قد جيشوا جيوشًا أو وضعوا قوانين أو أسسوا إمبراطوريات إذا صح أنهم أنشؤوا شيئا، فإن ما أنشؤوه قد سقط بسقوطهم.

أما هذا النبي صلى الله عليه وسلم فقد نشر جيوشًا وشريعة وإمبراطوريات وشعوبًا ودولا وملايين من البشر تمثل سكان المعمورة، إنه زلزل قصوراً وآلهة وديانات وأفكاراً ومعتقدات ونفوسًا. وبنى ذلك كله على كتابٍ كلُّ حرف من حروفه يمثل تشريعًا، بل جنسية تضم شعوبًا متعددة اللغات ومتنوعة الأعراق، طبعها طابع جامع لهذه الجنسية الإسلامية التي يوحدها التبرؤ من الأوثان والآلهة الزائفة ويجمعها حب الله الواحد المنزه عن الشريك والشبيه المادي.

إن هذا الولاء المعارض للإلهيات الملوثة –هو المميز لأبناء (أتباع) محمد صلى الله عليه وسلم الذين يمثلون ثلث العالم المؤمن بهذه العقيدة.

وهذه هي معجزته، بل إنها أكثر من معجزة رجل؛ لأنها معجزة العقل والفكر والعقيدة التي لها بذاتها هذه الطاقة التي عبر عنها بلسانه وشفتيه، وحطم بها جميع المعابد والأوثان الزائفة، وأنار بنورها ثلث العالم كله.

إن حياته وتأملاته (لتلقي الوحي) وتحديه البطولي للخرافات في بلاده وجرأته في مجابهة حقد المشركين، وثباته في وجه عدوان مشركي مكة خمسة عشر عامًا كان هو خلالها هدف التشهير وكان ضحاياها كثيرًا من صحابته، ثم هربه (هجرته إلى المدينة) وثباته الذي لا يتزعزع وعقيدته الثابتة التي خاض من أجلها حروبًا غير متكافئة متسلحًا بثقته التامة في نصر الله، وصبره الذي يتجاوز طاقات البشر في مواجهة المحن (الهزائم) وتسامحه عند النصر، وطموحه العقدي مجردًا عن السلطة، وصلاته الدائمة التي لا تنقطع، ورجوعه دائمًا إلى الله (سبحانه وتعالى) الذي أمده بالوحي.

هذا هو الإيمان.. أمده بالقوة لإحياء عقيدة ذات وجهين:

هما: توحيد الله (جل وعلا) وتنزيهه.

إن الوجه الأول تأكيد توحيد الله (سبحانه وتعالى) الواحد الأحد.

أما الوجه الثاني فنفي صفات الألوهية عن غيره وتنزيه الخالق (تبارك وتعالى) عن كل شبيه.

بالأول حطم بالقوة الأوثان الزائفة.

وبالآخر أقام بالوحي عقيدة التوحيد.

...كان خطيبًا... نبيًّا... مشرعًا... مجاهدًا ناجحًا مؤمنًا... مقيمًا للعقيدة الصحيحة، وأقام دعوته منزهة عن الصور والأوثان، ناشرًا لعشرين إمبراطورية على الأرض. في ظل إمبراطوريته الروحية الموحدة.

إن عظمة محمد صلى الله عليه وسلم على كل المستويات لم يبلغها إنسان آخر"[2].

وقال وليم موير في كتابه ((سيرة محمد))، فيما نقله عنه الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله-: "امتاز محمد صلى الله عليه وسلم بوضوح كلامه ويسر دينه، وقد أتم من الأعمال ما يدهش العقول، ولم يعهد التاريخ مصلحًا أيقظ النفوس، وأحيا الأخلاق، ورفع شأن الفضيلة، في زمن قصير كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم"[3].

وقال لين بول: "إن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يتصف بكثير من الصفات الحميدة كاللطف والشجاعة ومكارم الأخلاق، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يثار بما تتركه هذه الصفات في نفسه من أثر، ودون أن يكون هذا الحكم صادرًا عن غير ميل أو هوى، كيف لا وقد احتمل محمد صلى الله عليه وسلم عداء أهله أعوامًا، فلم يهن له عزم، ولا ضعفت له قوة، وبلغ من نبله أنه لم يكن في حياته البادئ بسحب يده من يد مصافحه، حتى ولو كان المصافح طفلا، وأنه لم يمر بجماعة يومًا، رجالا كانوا أو أطفالا دون أن يقرئهم السلام، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة، وفي فيه نغمة جميلة كانت تكفي وحدها لتسحر سامعها، وتجذب القلوب إلى صاحبها"[4].

الرحمة والفضيلة في حربه صلى الله عليه وسلم:

يقول الإمام محمد أبو زهرة –رحمه الله-: "وإنه كان يصاحبُ حربَ النبي صلى الله عليه وسلم عند ابتداء المعركة العملُ على تأليف القلوب حتى وقد اشتجرت السيوف، ولذلك يوصي عليه السلام جنده وقد أرسلهم للقتال بقوله: (تألفوا الناس، وتأنوا بهم، ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم؛ فما على الأرض من أهل مدر أو وبر أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلي من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم).

هي حرب رفيقة تتسم بالتأليف، لا بالتقتيل، وبالمحافظة على الأنفس والرجال إلا أن تكون ضرورة ملجئة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بألا يقوم الجيش بإتلاف زرع أو قطع شجر أو قتل الضعاف من الذرية والنساء، والرجال الذين ليس لهم رأي في الحرب.

وبهذه الوصايا يتبين أن الحرب النبوية الفاضلة لا يصح أن تكون إتلافا وإفسادا، وتحللا من القيود الإنسانية، ولذلك لا يباح في القتال كل شيء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم شدد في منع قتل الأطفال والشيوخ من الذين لا يحاربون وليس لهم رأي في الحرب، والنساء، لأن القتال الذي كان من المسلمين إنما كان لدفع الاعتداء والقصاص من المعتدين ما داموا مستمرين أو على نية الاعتداء، أولئك ما كانوا يقاتلون ولا يعتدون، وليس في طاقتهم أن يقفوا محاربين الدعوة الإسلامية أن تسير في طريقها"[5].

وعليه، فإن حربه صلى الله عليه وسلم ليست "كحرب الأنذال اللؤماء الذين يضعون السيف في موضع البرء وموضع السقم، وإنما هي حرب الخُلق القوي الذي لا يضع السيف إلا حيث يكمن الداء، ويستقر، ليقتلع الشر من مكمنه، فلا يقتل إلا من اعتدى وحمل السيف، أو دبر الأمر لمن يحمله.

ولذلك كانت الفضيلة هي المسيطرة في كل أوقاتها في ابتدائها وسيرها وانتهائها، ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجهاز على الجريح، كما نهى عن تعذيب القتلى، إذا ضعفت قوة الجريح أن يقاوم، وذلك كله لاحترام الإنسانية، ولأن القتال ليس القصد منه إلا إضعاف قوة الطغاة، ودفع الاعتداء وليس منها الانتقام"[6].

وصدق ربنا الكريم الذي قال في حق حبيبه وصفوة خلقه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقال: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]. 

ــــــــــــــــــــــــــــ

[1] Histoire de la Turquie, p,p.276-277

[2] فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، للدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري، تحقيق: د.توفيق محمد الشاوي، ود.نادية عبد الرزاق السنهوري، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1/1422هـ-2001م، ص271-272، نقلا عن كتاب لا مارتين بعنوان "تاريخ تركيا"، 2/276-277.

[3] عظماؤنا في التاريخ، للدكتور مصطفى السباعي، دار الوراق ودار السلام، ط1/1418هـ-1998م، ص46.

[4] عظماؤنا في التاريخ، ص46.

[5] خاتم النبيين، 2/700، المكتبة العصرية، صيدا-بيروت، دون تاريخ.

[6] خاتم النبيين، 2/701.

د.رشيد كهوس

المقالة نشر في موقع الألوكة بتاريخ:1/6/2008 ميلادي - 27/5/1429 هجري



المنشورات ذات الصلة