غزوة الأحزاب في ميزان السنن الإلهية

يقول الله تعالى في وصف أحداث غزوة الأحزاب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْـمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾(1). إلى قوله: ﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْـمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾(2).

     نلمح من الآيات السابقة أن غزوة الأحزاب من أهم الغزوات التي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه، فقد كانت الغزوات السابقة يواجه فيها المشركين فرادى، أما في هذه الغزوة فقد اجتمع عليه أهل الكفر والشرك والنفاق، لذا سميت هذه الغزوة بغزوة الأحزاب.

     إنها من أخطر المعارك وأحسمها في تاريخ الإسلام؛ إذ أن مصير هذه الرسالة العظمى كان فيها أشبه بمصير رجل يمشي على حافة قمة سامقة، أو حبل ممدود، فلو اختل توازنه لحظة وفقد السيطرة على موقفه، لهوى من مرتفعه إلى واد سحيق، ممزق الأعضاء، ممزع الأشلاء! ولقد أمسى المسلمون وأصبحوا فإذا هم كالجزيرة المنقطعة وسط طوفان يتهددها بالغرق ليلا أو نهارا(3).

     إن سبب غزوة الأحزاب يرجع إلى تأليب اليهود لأهل الكفر والشرك على الإسلام؛ فقد قام نفر من اليهود، منهم سلام بن مشكم، وابن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضريون، وهوذة بن قيس، وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير، ومن بني وائل، في تحزيب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة يدعونهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: إنا نكون معكم حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود! إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. فأنزل الله فيهم قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً﴾ إلى قوله: ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً﴾(4). فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له(5).

     وبعدما حرضوهم وأججوا أحقادهم خرجوا حتى جاءوا قبيلة غطفان من قيس عيلان، فحرضوهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك، واجتمعوا معهم فيه. فخرجت قريش، وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان، وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة، والحرث بن عوف المري في بني مرة، ومسعود بن رخيلة فيمن تابعه من أشجع.

     فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أجمعوا له من الأمر، ضرب على المدينة الخندق فعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبا للمسلمين في الأجر وعمل معه المسلمون فيه، فدأب ودأبوا(6).

     ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه المجاهدين وهم في هم وبلاء يخافون أشد من يوم أُحُد، فقالوا: حين رأوا  رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا: ما وراءك يا رسول الله؟ قال: خير فأبشروا، ثم تقنع بثوبه فاضطجع ومكث طويلا، واشتد عليهم البلاء والخوف حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطجع، وعرفوا أنه لم يأته من بني قريظة خير، ثم إنه رفع رأسه فقال: أبشروا بفتح الله ونصره، فلما أصبحوا دنا القوم بعضهم إلى بعض فكان بينهم رمي بالنبل والحجارة(7).

     قال الإمام محمد بن إسحاق – رحمه الله-: كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس(8)، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فتحصن بالجبل من خلفه، وبالخندق أمامهم(9).

     وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الظروف القاسية كان اليهود يخططون ويدسون الدسائس ليستأصلوا جذور المسلمين ويقضوا عليهم نهائيا، فخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري، حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاقده على ذلك وعاهده فلما سمع كعب بحيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فناداه حيي: ويحك يا كعب افتح لي؛ قال ويحك يا حيي: إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا؛ قال: ويحك افتح لي أكلمك؛ قال: ما أنا بفاعل قال: والله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك(10) فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام(11) جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة؛ وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى(12) إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. قال: فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام(13) قد هراق ماؤه فهو يرعد ويبرق ليس فيه شيء، ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه؛ فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب(14) حتى سمح له على أن أعطاه عهدا (من الله) وميثاقا: لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب بن أسد عهده وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم(15).

     فلما وصل الخبر إلى المسلمين، عظم عند ذلك الخطب، واشتد الأمر، وأتاهم أعداؤهم من كل حدب وصوب، ومن فوقهم ومن أسفل منهم، وتربصوا بهم الدوائر، حتى ظن المؤمنون الظنونا، ونجم النفاق من بعض المنافقين، وأخرجوا ما وارته صدورهم أيام السلم.

     فما كان من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو المؤيد بالوحي- إلا أن يحاول مفاوضة غطفان على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة ويرجعوا إلى حال سبيلهم محاولة منه التخفيف من الشدة والخوف الذي أصاب المسلمين، فكتب الكتاب ولم يبق إلا الإشهاد، - لكن قدر الله تعالى الذي إذا أراد شيئا هيأ له أسبابه- جاء سيدا الأوس والخزرج سيدنا سعد بن معاذ وسيدنا سعد بن عبادة رضي الله عنهما فعارضا الصلح.

     جاء في سيرة ابن هشام: فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه فقالا له: يا رسول الله أمرا نحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: (بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب؛ فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما)؛ فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا والله  ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأنت وذاك). فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا(16).

     إنها مواقف صاغها القدر لتكون لنا دروسا أنموذجية وعبرا غالية حتى لا تجرنا الحرفية والجهل بالنفوس البشرية وبشريعة الإسلام إلى سلوك حديدي نعجز معه عن الحركة في العالم وعن التعامل السليم مع أهل الإسلام، وما كان ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليخفف مما حل بالمسلمين وهو على يقين من نصر الله له.

     فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه على هذه الحال والمشركون متربصون بهم من كل جانب بضعا وعشرين ليلة، قريبا من شهر، لم تكن بينهم حرب إلا الرَّمي بالنبل والحصار(17). إلى أن هيأ الله تعالى للمؤمنين أسباب النصر وفق سنته في النصر بعد الاستيئاس؛ فخذل الله بين كفار قريش ويهود بني قريظة على يد نعيم بن مسعود الأشجعي فاختلفوا، وأرسل الله عليهم ريحا عاصفة في ليال شديدة البرد فجعلت تقلب آنيتهم، وتطفىء نيرانهم، وتكفأ قدورهم، حتى أشرفوا على الهلاك. فارتحلوا متفرقين في كل وجه، لا يلوي أحد على أحد(18). وكفى الله المؤمنين القتال ورد الذين كفروا بغيظهم وحنقهم أذلة صاغرين مدحورين، مولين أدبارهم، حاملين معهم الفشل والخيبة، والخسران المبين.

     وصدق ربنا القائل في محكم التنزيل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾(19): يقول الله تعالى مخبرا عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة، بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية، ولولا أن جعل الله رسوله رحمة للعالمين لكانت الريح عليهم أشد من الريح العقيم على عاد، ولكن قال: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾(20)، فسلط عليهم هواء فرق شملهم، كما كان سبب اجتماعهم من الهوى، وهم أخلاط من قبائل شتى، أحزاب وآراء، فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرق جماعتهم، وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنَقهم، لم ينالوا خيرا لا في الدنيا، مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة رة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول صلوات الله وسلامه عليه بالعداوة، وهمهم بقتله، واستئصال جيشه، ومن هم بشيء وصدَق هَمَّه بفعله، فهو في الحقيقة كفاعله(21).

     لقد أخذ المسلمون بقانون الأسباب في مواجهة الأحزاب الكافرة، وهكذا مضت سنة الله أن النصر بعد الشدة والضيق، وأن المنحة مع المحنة، وكلما قرب النصر اشتد البلاء.

     وهنا أجمل أهم نتائج هذه الغزوة مستلهما منها السنن الإلهية الثابتة والقوانين الربانية المطردة:

      1- خسارة أحزاب الشيطان في حربهم على المسلمين وتفرق شملهم ورجوعهم مدحورين بغيظهم قد خابت أمانيهم وآمالهم ومساعيهم.

     2- انتصار المسلمين وتحقق وعد الله لهم بالنصر، ولم يستشهد في هذه الغزوة التي تكالبت فيها الأحزاب على الإسلام إلا ستة نفر من المسلمين.

     3- تغير الموقف لصالح المسلمين وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)(22).

     4- كشفت هذه الغزوة مكائد يهود بني قريظة وحقدهم على المسلمين وتربص الدوائر بهم فقد نقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الشدة وجيوش الكفر تحيط بهم من كل جانب.

     5- كانت غزوة الأحزاب محكا بيَّن صدق المؤمنين المجاهدين وادعاء المنافقين الجبناء، وخبث يهود بني قريظة.

     6- كانت غزوة بني قريظة نتيجة من نتائج غزوة الأحزاب، تم فيها معاقبة يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك الظروف وأصعبها، طبقا لدستور المدينة الذي وافقوا على بنوده.

     7- وبينت هذه الغزوة سنة من سنن الله التي لا تتخلف ولا تتغير وهي جعل العاقبة لعباده المؤمنين، والهزيمة لأعداء الدين.

     8- كما بينت الحاجة الملحة في التأسي بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأوقات الحرجة، التأسي بصبره ويقينه في نصر الله تعالى، فقال سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾(23).

     9- هذا فضلا عما تحقق فيها من سنن الله التي ردت أهل الكفر على أعقابهم ناكصين خاسرين؛ أذكر منها  مثل:

     أ)- تثبيت الله لعباده المؤمنين عند الشدائد: قال الحق جل وعلا: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾(24)، فكما ثبَّت الله عباده المجاهدين يوم بدر ثبت كذلك عباده المجاهدين الصادقين يوم الأحزاب وفق سنته تعالى في تثبيت المؤمنين الصادقين المجاهدين عند الشدائد.

     وعليه؛ فرغم ذلك العدد الهائل الذي جمع كل المناوئين والمعادين للإسلام؛ من قريش ويهود وقبائل العرب؛ إذ جاءهم كفار قريش وغطفان من فوق، ويهود بني قريظة من أسفل، وأطبقوا عليهم من كل جانب، زاغت أبصار المؤمنين وبلغت قلوبهم الحناجر من هول هذا الموقف، وظنوا بالله الظنونا، لكن سرعان ما ذهب كل ذلك، فثبتوا وقويت عزائمهم ووثقوا بنصر الله ووعده لهم، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقال عز وجل يصف تثبيته لأولئك الرجال الذين لما رأوا تلك الجيوش الجرارة التي ملأت عليهم كل الجوانب لم يرعبوا ولم يخافوا وإنما قالوا: ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾(25).

     ب)- تيسير الله المخرج للمؤمنين المتقين من كل ضيق وشدة: قال الحق جل وعلا: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾(26)؛ وقال جل ثناؤه وعز سلطانه في سورة الأنفال:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ(29)﴾؛ فكما جعل الله تعالى للمؤمنين المتقين مخرجا في غزوة بدر الكبرى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان؛ جعل كذلك للمؤمنين المتقين مخرجا في غزوة الخندق وفق سنته الماضية بنصر المتقين وتيسير المخرج لهم عند اشتداد الأزمات.

     ولذلك لما اشتدت الأزمات وبلغت القلوب الحناجر يوم الأحزاب، وفرح العدو بالفرصة الثمينة -التي طالما انتظرها وضحى في سبيلها- ليستأصل فيها جذور الدعوة الإسلامية تدخلت إرادة الله - وهي فوق كل إرادة-، فخُيبت آمال الأحزاب وبار مكرها، فيسر للمؤمنين سبيل النصر بإسلام نعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه الذي ساقته يد القدرة ليشتت الأحزاب، ويزرع الخلاف والشقاق بينها؛ ليتحقق وعد الله وسنته: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(27)، ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾(28).

     وهنا لابد من الإشارة إلى أنه لما أحاطت الأحزاب بالمسلمين تريد الانقضاض عليهم وكسر شوكتهم، وزلزل المؤمنون زلزالا شديدا؛ في هذا الموقف العظيم يبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم ليس بالانتصار على الأحزاب فقط، بل بفتح بلاد الشام والمغرب واليمن والمشرق؛ قال الإمام ابن إسحاق – رحمه الله: وحُدثت عن سلمان الفارسي رضي الله عنهم أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغَلُظت علي صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني؛ فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة؛ قال: ثم ضرب به ضربة أخرى، فلمعت تحته برقة أخرى؛ قال: ثم ضرب به الثالثة فلمعت تحته برقة أخرى. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: (أوقد رأيت ذلك يا سلمان؟) قال: قلت: نعم؛ قال: (أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن؛ وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب؛ وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق) قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة t    أنه كان يقول، حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وزمان عثمان وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة ولا تفتتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك(29).

     ففي كل ضربة يقدم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بشرى بالنصر في المستقبل؛ ففي الأولى بشرهم بفتح اليمن، وفي الثانية بفتح الشام والمغرب، وفي الثالثة بفتح المشرق. جاءت هذه البشائر في وقت الشدة والضيق والحصار، والمنافقون يثبطون العزائم، ويخذلون بين المجاهدين ويدعونهم إلى ترك مواقعهم.

     ت)- الله عز وجل يدافع عن المؤمنين: لقد خيب الله آمال الأحزاب الذين أرادوا القضاء على الإسلام فأمكن الله منهم، وردهم مدحورين خاسرين، وهنا تحقق وعد الله في قوله جل وعلا: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾(30).

     ث)- الاستضعاف والاستكبار: لما استضعف الأحزاب الفئة المؤمنة واتعدوا على حربها والقضاء عليها كانت إرادة الله فوق كل إرادة، وكانت سنته المطردة للأحزاب بالمرصاد، قال الحق جل وعلا بعدما وضعت الحرب أوزارها وانتصر المسلمون وأحبطت كل خطط الأحزاب ومكائدهم؛ يبين لنا سنته في نصر عباده المستضعفين الذين آووا إلى ركنه الشديد: ﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْـمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا(25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا(26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا(27)﴾(سورة الأحزاب).

*  *  *

الهوامش:

(1) سورة الأحزاب:11.

(2) سورة الأحزاب:25-27.

(3)فقه السيرة محمد الغزالي، ص221-222.

(4)سورة النساء:50-55.

(5)عيون الأثر في فنون المغازي والسير، لابن سيد الناس، 2/77. مغازي موسى ابن عقبة، ص214-215. الدرر في اختصار المغازي والسير، لابن عبد البر، ص121. أنساب الأشراف، للبلاذري، 1/343.

(6)عيون الأثر، 2/77. مغازي ابن عقبة، ص215-216. الدرر في اختصار المغازي والسير، ص1216121.

(7) مغازي ابن عقبة، ص219.

(8) سيرة ابن هشام، 2/153.

(9) زاد المعاد، لابن القيم، 2/161. سيرة ابن هشام، 2/157.

(10) الجشيشة: جشّ الحَبَّ يَجُشّه جشّاً وأَجَشّه دقّه وقيل طَحَنه طَحْناً غليظاً جرِيشاً. لسان العرب، مادة: جشش.

(11) طام: طَمَا الماءُ يَطْمُو طُمُوًّا ويَطْمِي طُمِيّاً ارْتَفَعَ وعَلا ومَلأَ النهر فهو طامٍ وكذلك إِذا امْتلأَ البحْرُ أَو النَّهر أَو البئر وفي حديث طَهْفة ما طَمَا البحرُ وقام تِعارٌ أَي رْتَفَع موجُه وتِعارٌ اسم جَبَل. لسان العرب، لابن منظور، مادة: طما.

(12)ذنب نقمى: موضع من أعراض المدينة كان لآل أبي طالب. معجم البلدان، لياقوت الحموي، باب النون والقاف وما يليهما، حرف النون.

(13) الجَهامَ الجَهامُ: السحاب الذي فرغ ماؤه. لسان العرب، مادة: جهم.

(14) يفتل في الذَروة والغارب: هذا مثل وأصله في البعير، يَسْتَصعب عليك فتأخذ القُرَادَ من ذورته وغارب سنامه، وتفتل هناك؛ فيجد البعير لذة فيأنس عند ذلك، فضُرب هذا الكلام مثلا في المراوضة والمُخَاتلة. الروض الأنف، 3/422.

(15) سيرة ابن هشام، 2/159. الدرر في اختصار المغازي والسير، ص123. مغازي ابن عقبة، ص216.

(16) سيرة ابن هشام، 2/159-160.

(17) سيرة ابن هشام، 2/159. الدرر في اختصار المغازي والسير، ص126.

(18) كتاب المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم، أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي (دفين الإسكندرية 656هـ-1258م) عن نسخة نادرة بخط الرحالة المغربي ابن بطوطة بالمدرسة العزيزية بدمشق عام 727هـ-1327م، تقديم وتحقيق: عبد الهادي التازي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، ط1/1426هـ-2005م1/343. مغازي ابن عقبة، ص220-221.

(19) سورة الأنفال: من الآية33.

(20) سورة الأنفال:33.

(21) عمدة التفسير، 3/40.

(22) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، ح4110. والحديث عن سيدنا سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ t.

(23) سورة الأحزاب:21.

(24) سورة إبراهيم.

(25) سورة الأحزاب.

(26) سورة الطلاق.

(27) سورة الأنفال.

(28) سورة فاطر.

(29)  سيرة ابن هشام، 3/156-157. مغازي ابن عقبة، 215-216.

(30) سورة الحج: 38.

 

د.رشيد كهوس

مجلة الداعي الصادرة عن دار العلوم  ديوبند بالهند، ذوالقعدة 1435 هـ = سبتمبر 2014م ، العدد : 11 ، السنة : 38



المنشورات ذات الصلة